الرئيسية / تقاريـــر / النزوح … التفكير في المحظور قبل الطوفان!

النزوح … التفكير في المحظور قبل الطوفان!

النزوح … التفكير في المحظور قبل الطوفان!

 

النزوح ... التفكير في المحظور قبل الطوفان!
 09/09/2023

علي عبادي
كيف يمكن للبنان أن يكافح النزوح غير الشرعي الى أراضيه والذي تزايد مؤخراً بشكل مقلق (ضبط 1200 متسلل من سوريا عبر الحدود في أسبوع واحد)، وسط تقديرات بأن هذه مجرد بداية في ضوء الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها سوريا بسبب الحصار الغربي (والعربي)؟

من الواضح أن الحكومة اللبنانية سابقاً وحالياً لا توجد لديها إستراتيجية محددة للتعامل مع هذا التحدي الذي يتفق الجميع على أنه يمثل مخاطر اقتصادية واجتماعية وأمنية وربما وجودية لمصير لبنان كبلد محكوم بتوازن هش.

تراهن الحكومة اللبنانية على:

أولاً: قيام “المجتمع الدولي”، وبالتحديد الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بجهد فعال من أجل حلّ هذه المشكلة سواء عبر تقديم مساعدات مالية للبنان أو المسارعة الى إيجاد حل ما للأزمة السورية بما يُبقي السوريين في أرضهم ويوقف حركة الهجرة الجماعية الى لبنان والبلدان الأخرى.

ثانياً: فتح قناة اتصالات جانبية مع الحكومة السورية على مستوى بعض الوزراء، ولكن ليس على مستوى أعلى خشية إثارة تحفظات أميركية. وهدف هذه الاتصالات هو تأمين عودة “آمنة وكريمة” للنازحين الى أرضهم.

ويتبين أن الرهان على المجتمع الدولي لم يُفضِ الى نتيجة حتى الآن، ذلك أن المساعدات المالية للبنان تُكَرَّسُ بشكل أساسي للنازحين أو لقسم منهم، ولا يصل منها الى الخزينة اللبنانية إلا النزر اليسير مما لا يُغني من جوع. وقد ضبطت الحكومات الأوروبية مؤخراً دفق “حنفية” (صنبور) الأموال الى النازحين السوريين في لبنان والأردن وتركيا، متذرعةً بأنها تقدم الكثير من الأموال للنازحين الأوكران الى الدول الأوروبية، لكن عملية الضبط المالي هذه بدأت في الواقع قبل اندلاع حرب أوكرانيا. وفي التقدير أن الدول الأوروبية التي تُلحّ على دول الجوار السوري بضرورة استيعاب الهجرة السورية الى أوروبا، تسعى على المدى المتوسط الى دمج المواطنين السوريين الذين غادروا بلدهم الى الدول المجاورة في المجتمعات المحلية ومنحهم كل الحقوق الاقتصادية التي يتمتع بها مواطنو هذه البلدان. وهذا يوفر على الدول الأوروبية، المقصد الأول لعملية الهجرة السورية، أعباء اقتصادية واجتماعية وديمغرافية وربما أمنية. وللتذكير، اتبعت أوروبا تاريخياً نهجاً حمائياً في وجه هجرة الجماعات بدعوى الحفاظ على رفاهية ونمط عيش أبناء هذه القارة. ويقول الباحث الفرنسي “جون جيلبود Guillebaud” في هذا الصدد إن العلة تكمن في النظر الى الموضوع من زاوية “اجتياح المهاجرين الذي سيفجّر مجتمعاتنا وسينهي توازناتها ويمحو هويتها”، مضيفاً ان الغرب “يرى نفسه كقلعة محاصَرة ويعتمد قبل كل شيء على قوته التجارية والتكنولوجية والعسكرية ليبعد البرابرة عنه وينقذ حداثته”(*).

وتوجد شواهد عديدة على أن مداولات الجهات الأوروبية المانحة مع المسؤولين اللبنانيين كانت عبارة عن تقطيع للوقت لكي يتحمل لبنان في نهاية الأمر المسؤولية الكاملة عن أعباء النزوح السوري، حتى لو كان الغرب ضالعاً في تكوين أسباب استمرار الحصار المفروض على سوريا والذي يُنهك شعبها ودولتها. وتمشي الدول الاوروبية وراء الولايات المتحدة التي تُكثر من الحديث عن مساعدة لبنان لكنها لا تفعل شيئاً يُذكَر لوقف هذا الانهيار المتزامن لكل من لبنان وسوريا، مُصرّة على مواصلة فرض قانون قيصرها على سوريا والنتائج والتداعيات المترتبة من خلاله على لبنان. بل إن الولايات المتحدة كبحت الانفتاح العربي على سوريا، وأوقفت أية إمكانية لوصول استثمارات عربية إليها في أعقاب استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية. ولذلك، تفاقمت الأزمة بشكل ملحوظ في هذه الفترة، متسببة في إحباط من أمِلوا في حصول شيء من عودة الانتعاش الى الحياة الاقتصادية في سوريا. كما أوقفت الولايات المتحدة أية مقترحات لحل الأزمة السورية أو “تعريب” هذا الحل، ما لم يمرّ بتقويض النظام السوري بوضعه المركزي الراهن، حتى لو كان الثمن دفع سوريا الى التفكك، كما يجري من تحركات في مناطق عدة من هذا البلد.
أما سعي لبنان الى التواصل مع الحكومة السورية لإعادة النازحين، فقد حالت الضغوط على مرّ السنوات القليلة الماضية دون تفعيله. وللأسف، أضحت هذه العودة الآن أبعد من أي وقت مضى، في ضوء الموجة الثانية من النزوح التي ظهرت مؤخراً مع التراجع المستمر في قيمة العملة السورية (14 ألف ليرة مقابل الدولار الأميركي مقارنة بـ 46 ليرة للدولار قبل اندلاع أحداث سوريا عام 2011) والضغوط الاقتصادية المتزايدة على سوريا، حتى بعد استعادة مقعدها في الجامعة العربية.

ومن نافل القول إن “النزوح الاقتصادي” هو السمة الأبرز لعملية الهجرة من مناطق سوريا كافة، في وقت يتوفر قدر معقول من الاستقرار الأمني في مناطق شاسعة.

وتمكنت أوروبا من عقد اتفاقات مع دول عربية عدة ومع تركيا لوقف الهجرة السورية الى أوروبا عبر البحر، الأمر الذي حال دون وصول كثير منهم الى أوروبا التي تتمتع بشيء من الرفاه الاقتصادي قياساً بدول مثل لبنان والأردن، وعلِق أكثرهم في بلدان العبور التي وصلوا إليها، في وقت تتخذ تركيا إجراءات فعالة لإعادة قسم منهم الى سوريا.

وبعد، ماذا يبقى أمام لبنان لوقف سياسة الاستنزاف الغربية التي منعت الحلول في سوريا وأعاقت عودة السوريين الى بلدهم؟ هل يكتفي لبنان بالتفرج على سيل النزوح الذي سيزداد حجماً إذا استمر الوضع كما هو في سوريا، أم يتخذ خطوات “هجومية” باتجاه الغرب لدقّ ناقوس الخطر ودفع الضرر الحتمي عنه؟

من الواضح أن الحل الدفاعي الذي يتخذه لبنان اليوم عن طريق قيام الأجهزة العسكرية والأمنية بضبط النزوح عبر الحدود ليس كافياً أبداً، ويتحمل السياسيون (وليس أجهزة الامن) مسؤولية رئيسية في التصدي لهذا الموقف، وبالتالي من الضروري البحث عن حلول أخرى. لماذا لا يفكر لبنان “خارج الصندوق” ويسمح لنفسه ولو لمرة واحدة بترك النازحين السوريين يغادرون عبر شواطئه الى أوروبا (بالتأكيد ليس بقوارب متهالكة)، علّه يدفع بذلك القارة العجوز الى التفكير بوجع لبنان وتقدير ما يتحمله من عواقب لهذه السياسات المجحفة؟ لقد قدّم الرئيس التونسي قيس سعيّد تجربة عملية من خلال فتح الباب أمام المهاجرين الأفارقة لركوب البحر من تونس الى أوروبا وتمكّن من إرغام قادة أوروبيين على السفر بشكل عاجل الى تونس وإلغاء كل التحفظات السابقة على التعاون معه، بل وعرضوا مليارات الدولارات لكي تلعب تونس دور حائط الصدّ أمام المهاجرين الأفارقة. هنا، لماذا يكون على لبنان أن يلعب دور المصدّ مع النازحين السوريين مجاناً أو مقابل مساعدات زهيدة ومشروطة، مع التأكيد مرة اخرى أن مسؤولية النزوح السوري تقع اليوم بالدرجة الأولى على دول الغرب، نظراً لأن هذه الأزمة المتفاقمة هي وليدة الحصار، ومع التنويه أيضاً بأن النزوح ينطلق من خلفية اقتصادية في الغالب.

لا شك أننا نفتقر الى سياسات حازمة وواضحة في التعامل مع هذا التحدي، ولنا أن نتساءل:

ــ هل يفيد لبنان سلوكُ طريق المناشدة للمجتمع الدولي لكي يتحمل مسؤولياته، وقد شهدنا مؤتمرات عدة في بروكسل، فكانت جعجعة بلا طحين؟!

ــ هل يجدي التعويل على سخاء دول الغرب لكي تتحمل بعض ما نتحمله عنها في أزمة النزوح؟ الواضح أن “حنفية” دول الغرب تقفل شيئاً فشيئاً، وهي تطالب بتوطين النازحين بصرف النظر عن العواقب.

ــ هل علينا أن نلجأ الى إستراتيجية هجومية نوجّه من خلالها مجرى هذا النهر البشري العارم في اتجاه البحر الى أوروبا؟ ربما علينا أن نجرّب، لأن الغريق (وهو هنا لبنان وسوريا معاً) يتمسك بقشة في مواجهة الطوفان. لا يحتاج لبنان أكثر من غضّ الطرف، لكي يستيقظ المسؤولون الغربيون من سُبات الاطمئنان الى سياسة “الامتثال” التي يتبعها لبنان مغمض العينين حيال معاييرهم الفجّة والانتقائية.
________________________
(*) نقلاً عن: محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ص 73-75.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...