الابحاث العرفانية – السيّد محمّد الحُسين الحسينيّ الطهرانيّ
کتاب الشمس الساطعة
جامعيّة العلاّمة الطباطبائي في العلم و العمل
بلي، لقد كان سماحة العلاّمة آية عظيمة، ليس فقط في الفلسفة و الإحاطة بتفسير القرآن، ول يس فقط في فهم الاحاديث و إدراك معناها و مرادها بحقّ، سواءً الروايات الاصولية أو الفروعيّة؛ و ليس فقط بلحاظ نظره الشامل في سائر العلوم و إحاطته بالمعقول و المنقول، بل و أيضاً بلحاظ التوحيد و المعارف الالهيّة و الواردات القلبيّة و المكاشفات التوحيديّة و المشاهدات الالهيّة القدسيّة و مقاما لتمكين و استقرار الجَلَوات الذاتيّة في جميع عوالم النفس و زواياها. و كان يُخيّل لمن يجالسه و يري صمته المطبق و سكوته المطلق أن ليس لهذا الرجل من شيء في فكره، بيد أنّه في الحقيقة كان مستغرقاً في الانوار الالهيّة و المشاهدات الغيبيّة الملكوتيّة بحيث لم يكن ليجد مجالاً للنزول منها.
و ما أعجب شموله و جمعه بين تحمّل جبال الاسرار تلك و بين حفظ الظاهر في مقام الكثرة و إعطاء حقّ العوالم و ذوي الحقوق، من التدريس و تربية الطلاّب و الدارسين و الدفاع عن حريم الدين و السنّة الالهيّة و قوانين الإسلام المقدّسة و متراس الولاية الكليّة الالهيّة.
و لقد كان آية الله العلاّمة الطباطبائي ـ فضلاً عن شموله و تبحرّه في العلوم ـ جامعاً بين العلم و العمل، ذلك العمل الناشي عن الرشحات النفسيّة و المتحقّق علی أساس طهارة السرّ؛ و كان جامعاً بين العلوم و الكمالات الفكريّة و بين الوجدانيّات و الاذواق القلبيّة و بين الكمالات العلميّة و البدنيّة؛ اي انّه كان رجل الحقّ الذي يتحقّق أرجاء وجوده بالحقّ.
و كان خطّ يده في خطّ التحرير «نستعليق = نسخ التعليق) و هو خطّ فارسيّ معروف، و في الخطّ الفارسي «شكسته» من أجمل و أفضل ما خطّه أساتذة فنّ الخطّ؛ [9] و علی الرغم من ارتعاش يده في هذه الاواخر بسبب ضعف الاعصاب و الرجفة الحاصلة في اليد و المؤدّية الی ارتعاش الخطّ، الاّ انّ جوهر الخطّ يحكي عن امتلاكه تبحرّاً في هذا الفنّ.
و كان بنفسه يقول: لقد بقيت قطع من خطّ أيّام الشباب، و كنت أنظر اليها فأعجب منها و أتساول: أهذا خطّي أنا!
و كان للعلامة اطلاعاً علی العلوم الغريبة كالرَمْل و الجَفْر، الاّ انّه لم يُشاهد عنه انّه عمل بها؛ كما كانت له مهارة عجيبة في علم الاعداد و حساب الجُمَل و الابجد و طرقه المختلفة.
كما كان يتملك حظّاً كبيراً في الجَبْر و المقابلة و الهندسة المجسّمة و المسطّحة و حساب الإستدلال، و كان أستاذاً في علم الهيئة القديمة بحيث كان يمكنه استخراج التقويم بسهولة و يُسر. و كما ذكرنا فقد درّسنا دورة فيه، و لكن باعتبار انّ هذا الحقير كان قد درس درس الرياضيّات (الحساب و الهندسة و المثلثات) في المدارس الحديثة الی حدٍّ واف، فلم تكن هناك ضرورة لدارستها عليه من جديد.
و علی كلّ حال، فقد كان أستاذنا قد درس علوم الرياضيات في النجف الاشرف علی السيّد أبي القاسم الخونساري، و هو من علماء الرياضيات المشهورين في ذلك العصر. و كان نفسه يقول: كان بعض أساتذة الرياضيّات في جامعة بغداد حينما يواجهون مسألة يعجزون عن حلّها، فانّهم يأتون الی النجف فيحضرون عند السيّد أبي القاسم فيحلّ لهم ما أبهم عليهم.
هذا و كان العلاّمة الطباطبائي أستاذاً في الادب العربي و المعاني و البيان و البديع، و استاذاً في الفقه و الاصول ذا ذوق فقهيّ سلس قريب من الواقع، و كان قد درس دورات من الفقه و الاصول علی أساتذة كالمرحوم آية الله النائيني و المرحوم آية الله الكمباني، كما أفاد من فقه آية الله الاصبهاني، حيث دامت هذه الدورات عشر سنوات.
و كان استاذه الوحيد في الفلسفة هو الحكيم المتألّه المعروف السيد حسين بادكوبهاي حيث قضي سنوات طوال في البحث و التلمذة عليه برفقة أخيه المرحوم آية الله الحاج السيد محمد حسن الطباطبائي الالهي، فدرسا لديه «الاسفار» و «الشفاء» و «المشاعر» و غيرها. و كان للمرحوم الحكيم بادكوبهاي اهتماماً خاصّاً بالعلاّمة، فأمره ـ من أجل تقوية برهانه و استدلاله ـ بمتابعة دراسة علوم الرياضيّات.
امّا المعارف الالهيّة و الاخلاق و فقه الحديث فقد تعلّمها عند العارف الجليل الذي يعزّ نظيره، بل المنقطع النظير: المرحوم آية الحقّ الحاج الميرزا علی أقاي القاضي قدّس الله تربته الزكيّة، و كان في السير و السلوك و المجاهدات النفسانيّة و الرياضات الشرعيّة تحت اشراف و تعليم و تربية ذلك الاستاذ الكامل.
و كان المرحوم القاضي من بني عمومة العلاّمة، و كان مشغولاً في النجف الاشرف بتربية التلامذة المتألّهين المتحرّرين من العلائق، و عشّاق الجمال الالهي و مشتاقي لقاء و زيارة الحضرة الاحديّة. و كان العالم الوحيد في ذلك المضمار، و الاوحد في ذلك الفنّ، بحيث كان العلاّمة لا يُطلق لقب الاستاذ الاّ عليه، و كان كلّما أورد لقب «الاستاذ» علی نحو الإطلاق، كان مراده به المرحوم القاضي، لكأنّ جميع الاساتذة الآخرين ـ مع ذلك المقام و العظمة العلميّة ـ كانوا يبدون صغاراً مقابل المرحوم القاضي.
امّاً في المجالس العامّة، و حين ينجرّ الحديث الی ذكر أساتذته، فانّ العلاّمة لم يكن ليورد اسم القاضي من فرط الاحترام، و لا ليعدّه في صفّ سائر الاساتذة، كما انّ اسم المرحوم القاضي لا يلوح في صفّ أساتذة العلاّمة الذين ذكرهم في مقالة مختصرة بقلمه كتبها عن حياته، و وردت في مجموعة مقالاته و رسائله التي نُشرت بإسم «بررسيهاي اسلامي = مناقشات إسلاميّة»، كما لم يرد فيها ذكر لقيامه الليالي و عبادته و مبيته في مسجدي السلهة و الكوفة، فقد كتب يقول: «و كان يحصل كثيراً ـ و خاصّة في فصل الربيع و الصيف ـ أن أقضي الليل بالمطالعة الی طلوع الشمس».
و من الجليّ أوّلاً انّ ذكر العبادات و مقدار قيام الليل بالتهجّد و الذكر و التأمّل في مقالة عامّة لعموم الناس سيكون أمراً تافهاً بعيداً عن المتانة و الوقار، و خاصّة من مثل هذا الاستاذ الذي لم يدنُ قطّ خطوةً واحدة في اتّجاه التشخّص، و الذي احترقت في وجوده كليّأ جذور الانانيّة و التظاهر.
و ثانياً: فحين يعدّ الاستاذ كتمان السرّ أحد الشرائط الاكيدة لطيّ الطريق الی الله، فأنّي أن يُحتمل أن يصرّح بعباداته المستحبّة السريّة بينه و بين ذات الحيّ القيوم، فيعرضها أمام أنظار عامّة الناس؟!
و إذا، فكما انّ الجليّْ أنّ فريضة الصبح مستثناة من الذكر في عبادته، فانّ من الجليّ كذلك انّ سائر العبادات المستحبّة والواجبة الاخري مشمولة هي الاخري بهذا الاستثناء.
بيد انّ العلاّمة لم يكن ليبخل بذلكر ذلك الرجل الجليل حيثما كان ذكره مناسباً، فكان يذكره بإجلال و إكرام خاصّين، و من ذلك في المقدّمة التي كتبها للتذييلات المدوّنة بعنوان محاكمات علی مراسلات العلمين الكربلائي و الكمباني، فقد كتب يقول: «…. و قد استقرّ (السيّد أحمد الكربلائي) أخيراً في بوتقة تربية و تهذيب المرحوم آية الحقّ و استاذ العصر الشيخ الجليل الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني قدّس الله سرّه العزيز، فلازم ذلك المرحوم سنوات متمادية، حاز فيها فصب السبق دون الجميع، و تصدّر أخيراً الصفّ الاوّل لتلامذته و المتربّين علی يديه، و حاز في العلوم الظاهريّة والباطنيّة شأواً مكيناً و مقاماً أميناً.
ثمّ انّه أقام في عتبات النجف الاشرف المقدّسة بعد وفاة المرحوم الآخوند، فاشتغل بتدريس الفقه، و كانت له اليد البيضاء في المعارف الالهيّة و في تربية الناس و تكميلهم، فوضع جمعٌ كثير من الاعلام و المتحررّين المنزّهين؛ بيُمن تربية و تكميل ذلك الجليل؛ أقدامهم في دائرة الكمال، و خلّفوا بساط الطبيعة ظِهريّا، و صاروا من سكّان دار الخُلد و الواردين في حريم القُرب.
و من بينهم السيّد الاجلّ، آية الحلقّ، و نادرة الدهر، العالم العابد الفقيه المحدّث، الشاعر المُفلِق، سيّد العلماء الربانيّين المرحوم الحاج الميرزا علی القاضي الطباطبائي التبريزي المولود سنة ألف و مائتين و خمس و ثمانين هجريّة و المتوفّي سنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و ستّين هجريّة، أستاذ هذا الحقير في المعارف الالهيّة و فقه الحديث و الاخلاق؛ رفع الله درجاته السامية و أفاض علينا من بركاته». (انتهي كلام أستاذنا العلاّمة الطباطبائي قدّس الله سرّه).
بلي، لقد كان لاستاذنا علاقة و وله كبير بأستاذه المرحوم القاضي، و حقّاً فقد كان يري نفسه صغيراً أمامه؛ و كان يتفرّس في سيماء المرحوم القاضي عالماً من العظمة والجلال و الاسرار و التوحيد و الملكات و المقامات.
أهديتُ اليه عطراً في أحد الايّام، فأمسكه بيده، ثمّ تأمّل هنيئة و قال: «لقد مرّت سنتان علی رحيل أستاذنا المرحوم القاضي لم أستعمل فيهما عطرا».
و كان ـ الی هذه الاواخر ـ كلّما أهديتُه عطراً، يُغلق غطاءه ثم يضعه في جيبه، و لمأره يضع عطراً مع انّ ستّاً و ثلاثين سنة قد تصرّمت علی رحيل أستاذه.
و العجيب هو أمر تساوي مدّة عمر العلاّمة و أستاذه المرحوم القاضي، فقد عاش المرحوم القاضي احدي و ثمانين سنة، و عاش العلاّمة مثلها أيضاً، فقد ولد سنة ألف وثلاثمائة و احدي و عشرين هجريّة، [10] و ارتحل صباح يوم الاحد الثامن عشر من محرّم الحرام لسنة ألف و أربعمائة و اثنتان هجريّة، قبل الظهر بثلاث ساعات. شأنهما في ذلك شأن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم و وصيّه أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، فقد عمّر كلاهما اثنتان وستين سنة.
إقرأ المزيد ,,
مشهد مصور عن حقائق من الميدان في غزة _ طوفان الاقصى
إقرأ المزيد ,,
الإمام الخامنئي: الشعب الفلسطيني فضح الغرب وأمريكا وادعاءاتهم الكاذبة بشأن حقوق الإنسان
إقرأ المزيد
الشيعة وفلسطين _.._ قراءة في عملية طوفان الاقصى (جميع الحلقات)
إقرأ المزيد
لنصرة غزة قاطق المنتجات الاسرائيلية
فلسطيني رقص على الدبكة خلال الاشتباكات يُذكر بـ “رقصة الحرية” للهنود الحمر
إقرأ المزيد
ندعوكم لدعم موقع الولاية الإخبارية ماديا
إقرأ المزيد
( أُمُّ الْبَنِينَ ابْكِ عَلىٰ أَحْزانِها ) – قصيدة من ديوان مدائح الأطهار
*غولاني” يُسحب من غزّة.. المقاومة تُحطّم جنود “النُخبة”
*أبو عبيدة: إذا أراد العدو أسراه أحياءً فعليه وقف العدوان
*أمير عبداللهيان: الشعب الفلسطيني ومقاومته اثبتا تفوق قدرتهما وارادتهما على آلة القتل الصهيونية
*السيد الحوثي: البوارج الأميركية هدف لصواريخنا إذا اعتدت واشنطن علينا
رئيسي لـ “بابا الفاتيكان” : أتمنى أن نرى عشية العام الجديد وقفاً فورياً لقتل ألابرياء في غزة
محلل عسكري صهيوني: لسنا قريبين من تحقيق أهداف الحرب على غزة