تكمن مصلحة سوريا والعراق بعد ملحمة “طوفان الأقصى” بتوافقهما الكامل على رفع مستوى التنسيق مع بقية قوى المقاومة، واعتبار معركة إخراج الأميركيين من منطقة غرب آسيا جزءاً أساسياً مكمّلاً لقضية فلسطين المركزية.
ما إن أنهى السيد حسن نصر الله كلمته التي تحدّث فيها عن الفرصة التاريخية للعراق، حتى بادر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للتصريح بأنه “يلتزم بالعمل على إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق”، بما يدفع للسؤال عن طبيعة المرحلة المقبلة؟ وفرصة العراق وسوريا بحصاد نتائج ملحمة “طوفان الأقصى”؟
مضى أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الملحمة الأكبر في تاريخ العرب والمسلمين المعاصر، التي بدأت ملامح النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة بالتبلور، والذهاب نحو أزمة جديدة بعد بدء اعترافه بالهزيمة الاستراتيجية في أوكرانيا، وخشيته من الإقرار بهزيمة جديدة أكبر من كلّ معاركه التي خاضها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.
يعمل الأميركيون على مسارين مترابطين بما يمنع من الاعتراف بهزيمة كبرى، مع إقرار جزئي بالفشل، لا يدفع بالقوات الأميركية للخروج من العراق وسوريا، والوصول إلى تفاهم جديد مع قوى المقاومة يتيح لهم البقاء في منطقة غرب آسيا، ويحفظ “إسرائيل” من دفع ثمن باهظ كنتيجة لفشلها في الحرب على غزّة، وعجزها عن ردع محور طهران-بغداد-دمشق-بيروت-غزة-صنعاء.
المسار الأول تصعيديّ كبير باللجوء إلى عمليات الاغتيال المباشر والمتنقّل أم بواسطة الموساد و”الجيش” الصهيوني، والتي بدأت باغتيال الشخصية الإيرانية الأبرز في فيلق القدس في سوريا رضي الموسوي، وبعدها نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية، ثم اغتيال قائد اللواء 12 في الحشد الشعبي “حركة النجباء” مشتاق السعيدي، وترافق ذلك مع تحريك مقاتلي “داعش” في سوريا والعراق وقيامهم بأكبر التفجيرات الدموية في مدينة كرمان في إيران، وغاية هذه السياسات الأمنية والعسكرية هي إخضاع المحور لضغوط هائلة لأجل التوقّف عن الاستمرار بالحرب، والقبول بتحقيق الهدفين الأميركيّين سالفي الذِكر.
المسار الثاني مرتبط بضرورة التخلّص من التيار الصهيوني المتطرّف في الكيان “الإسرائيلي”، الذي يعتبر بمثابة كارثة على الولايات المتحدة وعلى “إسرائيل” ذاتها بسياساته المتطرفة داخل فلسطين المحتلة، إضافة لما أفرزته الحرب في غزة من تداعيات كارثية على النظام الغربي عموماً وعلى الولايات المتحدة خصوصاً، فقامت بمجموعة خطوات، بدأت بانقلاب “المحكمة الإسرائيلية العليا” على اليمين المتطرف وإلغائها “قانون الحدّ من المعقولية”، الذي يعيد لها صلاحياتها بمواجهة رئيس الحكومة، والأمر الثاني كان تشكيل لجنة برئاسة رئيس الأركان السابق شاؤول موفاز للتحقيق بأسباب فشل “الجيش” والأمن من وقوع أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على شاكلة لجنة “فينوغراد” التي تشكّلت في إثر فشل “الجيش” في حرب تموز/يوليو 2006.
وترافق كلا الأمرين مع نشر فضيحة عميل الموساد جيفري أبستين وأسماء عدد من كبار الأثرياء ورجال السلطة في الغرب وغيره، في خطوة تُعتبر بمثابة رسالة ضغط على الشريحة الأكثر تشدّداً في دعم الكيان، والانصياع لضرورة التعاطي مع المرحلة الجديدة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
يُعتبر كلّ من العراق وسوريا بمثابة ركيزتين أساسيتين في المنطقة الأكثر اضطراباً في العالم، ويشتركان مع بعضهما البعض بالكثير من العوامل التي يمكن لها أن تؤدي دوراً في تلاقيهما، وهي في الوقت نفسه عناصر ممزِّقة لهما بغياب القوة الجامعة، ويؤدي فيهما التداخل الديني والمذهبي والاثني والعشائري والتنوّع الشديد لعناصر النسيج الاجتماعي دوراً مهماً في تاريخهما، وانعكاس ذلك على الانقسام السياسي العمودي بين توجّهين متباينين داخلهما، يمثّلان امتداداً للصراع الدولي الكبير على بنية النظام الدولي المحتدم بين الشرق والغرب.
ليس أمام قوى المقاومة إلّا أن تتعامل مع الهدفين الأميركيين بتشدّد أكبر في المرحلة المقبلة من الحرب، فعلى الرغم من الآلام الكبيرة التي تعرّضت لها غزة بشكل كبير لا يمكن وصفها والإحاطة بها، فإن التصعيد الأميركي الكبير يوفّر الفرصة الأهم على مستوى العراق وسوريا ومعهما لبنان والأردن وفلسطين المحتلة، فهما يشكّلان مع بعضهما البعض الرافعة الجيوسياسية والتاريخية لمنطقة الهلال الخصيب بأكمله، وهي منطقة قادرة على إحداث التوازن والاستقرار في منطقة غرب آسيا بأكملها، والدفع بدول هذه المنطقة نحو بناء نظام إقليمي جديد، تخرج فيها الحدود الفاصلة بين شعوبها عن كونها سجوناً كبيرة لأبنائها، والتي تُعتبر نتيجة لأرباح الغرب بعد الحرب العالمية الأولى.
هذه الفرصة التاريخية لا يمكن أن تتحقّق ببقاء قوى الاحتلال الأميركي في سوريا والعراق، وهي المسؤولة الأولى عن استمرار الانقسام السياسي داخل البلدين، وبمثابة تهديد مستمر لترسيخ الكيانات السياسية التي تشكّلت في العقدين الأخيرين داخل البلدين نتيجةً للاحتلال المباشر، وعدم حسم قرار إخراج الأميركيين في هذه المرحلة سيعني المزيد من التشظّي الداخلي، المترافق مع تدهور اقتصادي ضاغط على جميع السوريّين وطيف واسع من العراقيين.
تكمن مصلحة سوريا والعراق بعد ملحمة “طوفان الأقصى” بتوافقهما الكامل على رفع مستوى التنسيق مع بقية قوى المقاومة، واعتبار معركة إخراج الأميركيين من منطقة غرب آسيا جزءاً أساسياً مكمّلاً لقضية فلسطين المركزية، فمصير كلاهما بل مصير دول المحور وقواه أصبح مترابطاً ولا يمكن الفصل فيما بينها، وهي تخوض معركة وجود، كما تخوض “إسرائيل” والولايات المتحدة معركة وجودهما أيضاً، وعدم إخراجها سيجوّف في المستقبل من انتصار حركة حماس ومعها الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في فلسطين، وسيدفع بسوريا والعراق للمزيد من الاضطرابات الأمنية والاقتصادية، كما أن الحلول السياسية للانقسام داخل البلدين ستختفي إلى أجل غير محدّد، وكلاهما لا يمكن أن ينهضا من جديد ببقاء بنيتهما السياسية على وضعها الحالي.