ما يميز المعركة التي تخاض اليوم هو ضبط التوقيت بين الجبهات المختلفة وبروز قدرة ملحوظة على المزاوجة بين التكتيك والاستراتيجيا من خلال التعامل مع الظروف المتغيرة التي تفرضها المعركة.
استقبل كل أنصار محور المقاومة خبر العملية البطولية التي نفذتها المقاومة الإسلامية اللبنانية ضد قاعدة ميرون في قمة جبل الجرمق بسعادة تسمعها في أصواتهم عندما يتصل بك أحدهم أو تقرأها فيما يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي.
ما حدث قبل ذلك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي كرمان في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي بغداد، أشاع جواً من القلق حول استهداف العدو لعمق محور المقاومة بعمليات اغتيال غادرة، كان قد أعلن عنها فيما سمّاه المرحلة الثالثة من معركة طوفان الأقصى.
الجهة التي ارتكبت هذه العمليات واحدة، وهي الولايات المتحدة الأميركية، بصرف النظر عن اسم المنفذ، سواء كان “إسرائيل” أو “داعش”. الهدف الأميركي هو منح “إسرائيل” وداعميها نصراً ما يفسح المجال أمام البدء بعملية إيقاف المعارك في غزة.
لا يعني ذلك انسحاب “إسرائيل” من غزة في المدى القريب، ولكنه بالتأكيد يعني أن الولايات المتحدة أدركت عجز “اسرائيل” عن تحقيق الهدف المطلوب، وأن هذه الحرب تحولت إلى عبء سياسي واقتصادي، ما يجعل تخفيف وتيرتها تدريجياً، وصولاً إلى أفضل صيغة تسوية، تحقق وقفاً طويلاً لإطلاق النار.
على الرغم من التحليلات التي تعتبر أن الهدف من حملة الاغتيالات الأخيرة هو توسيع رقعة المعركة، فإنَّ قيادة المقاومة الإسلامية تدرك أن الولايات المتحدة لن تحتمل حرباً إقليمية في ظل بداية الحملات الانتخابية، وهو ما عبّر عنه تصريح مسؤول عن الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض عن تقبل بلاده “فكرة أن الحركة ستظل موجودة”. يضاف إلى ما سبق الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق، والتي عبر عنها رئيس البنك الفيدرالي الأميركي بإعلانه إيقاف خطة رفع الفوائد والتوجه نحو البدء بخفضها.
هذا الإدراك للظروف السياسية والاقتصادية دفع قيادة المقاومة إلى اتخاذ قرار قصف موقع ميرون من دون قلق من قرار أميركي بتوسيع رقعة الحرب.
القلق الحقيقي يجتاح الأوساط السياسية والعسكرية في “إسرائيل” بسبب توقيت عملية المقاومة ومكانها. الرد السريع من المقاومة يشير إلى أنها تمتلك بنك أهداف يشمل مواقع استراتيجية هامة ومعلومات استخباراتية وخططاً جاهزة تمكنها من الرد على العدو بشكل قاسٍ وفي مواقع حساسة.
التعتيم الإعلامي للعدو يشير إلى أنه لا يريد منح المقاومة معلومات عن حجم الخسائر التي حققتها العملية، وهذا معقول في العلوم العسكرية، لكن الأهم أنه يريد التقليل من أهمية العملية والتعامل معها كأنها جزء من القصف المتبادل عبر الحدود منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر. كل ذلك بهدف تجنب الرد عليها وتوسيع رقعة المعركة بعكس الرغبة الأميركية.
هذا السلوك يذكرنا بسلوك مشابه تماماً لجأت إليه الإدارة الأميركية بعد القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد الأميركية في العراق رداً على اغتيال القائد الشهيد قاسم سليماني.
ما يميز المعركة التي تخاض اليوم هو ضبط التوقيت بين الجبهات المختلفة وبروز قدرة ملحوظة على المزاوجة بين التكتيك والاستراتيجيا من خلال التعامل مع الظروف المتغيرة التي تفرضها المعركة، سواء على العدو أو داخل صفوف محور المقاومة.
هذا الانضباط تطور على مدى السنوات الماضية، واختبر ميدانياً تحت عين العدو من خلال معارك مثل سيف القدس ووحدة الساحات، لكن العدو أظهر عجزاً واضحاً عن جمع قطع الأحجية ليجد نفسه أمام 7 أكتوبر وما تلاها.
لم تتوقف المقاومة عن تقديم المفاجآت، فمن الصواريخ التي انطلقت من بيت حانون باتجاه فلسطين المحتلة ليلة رأس السنة الميلادية، إلى قصف قاعدة ميرون الجوية، تثار التساؤلات داخل الدوائر الاستخبارية الغربية عمّا تخبئه المقاومة في المستقبل.
هذا الغموض يربك المخططين العسكريين، ويجعلهم يقدمون خيارات مترددة لقادة الجبهات، أدت في الكثير من الأحيان إلى خلل على الأرض ومقتل بعض الجنود الإسرائيليين بنيران صديقة.
لم تكن خطة إعماء العدو مقتصرة على تدمير كاميرات التجسس المنتشرة على الحدود أو استهداف الطائرات المسيرة، لكنها امتدت إلى حالة من الإعماء الميداني التي جعلت جنود “جيش” العدو يشعرون بأنهم يقاتلون “أشباحاً”، كما صرخ أحدهم.
المقاومة تمتلك ميزة استراتيجية تجعلها متفوقة على العدو، وهي أنها تخوض معركة استعدت لها على مدى سنوات، كما هو واضح، في حين ما زال العدو يعالج آثار المفاجأة المدوية التي تعرض لها في 7 أكتوبر.
لعل أبرز دليل على ذلك أنه على مدى 90 يوماً من المعركة التي تخوضها المقاومة وهي تحت الحصار لم نلحظ وجود نقص في الذخيرة والمعدات، بما في ذلك الصواريخ، في حين لا تنفك الطائرات الأميركية تحمل الأسلحة بشكل مستمر تلبية لاحتياجات “جيش” العدو، بل شاعت أخبار في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أسلحة فاسدة قادمة من أوكرانيا سلمت للجنود في شمال غزة، في صورة كاريكاتورية مقلوبة لما أصاب الجيوش العربية في حرب 1948.
ما زالت المقاومة تحقق الانتصار رغم فداحة الخسائر في أرواح المدنيين الأبرياء، ولا أدل على ذلك من لجوء العدو إلى المغامرة باغتيال بعض قادة محور المقاومة رغم تأكده من الرد القاسي الذي سيرد به محور المقاومة.
بحث العدو عن نصر فشل، ومعنويات المقاتلين وحتى التحركات الشعبية ما زالت مرتفعة، فهي ترى في شهادة القادة تكراراً للحظة في التاريخ استشهد فيها قادة الجيش العربي الإسلامي في معركة مؤتة، لكن تلك المعركة كانت مفتاح كل الانتصارات التي سيحققها ذلك الجيش في معارك تصنع واحدة من أعظم الدول في تاريخ المنطقة.