طوفان الأقصى
سحب الاستثمارات.. الصفعة التي يخشاها الصهيوني
بالرغم من توسّع نطاق الاحتجاجات الطلابية إلى أكثر من 50 حرمًا جامعيًا في أميركا، إلا أن لغة المطالب التي تردّدت في أصداء هذه الجامعات كانت إلى حد كبير موحّدة. فإلى جانب المطلب المرتبط بوقف العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، برز مطلب آخر ذات أهمية كبرى، وهو مطالبة الجامعات الأميركية بسحب استثماراتها من الكيان المحتل أو بوقف التعامل مع الشركات الداعمة لهذا الكيان.
مطلب سحب الاستثمارات يشكّل في الحقيقة مأزقًا خطيرًا لكيان الاحتلال. وإدراك الكيان لهذه المخاطر عليه يتظهّر في أمرين أساسيين: يتمثل أحدهما بسعي الحكومات الصهيونية لإفشال هذا المطلب عبر الجهود الضخمة المستغلة في سبيل تحقيق هذا الهدف، والآخر يظهر عبر الاستدلال بقيمة هذه الاستثمارات الداعمة للكيان المحتل في مجالاته العسكرية والاستخباراتية.
في العام 2002؛ ارتفع صوت الاحتجاجات الطلابية الأميركية في أكثر من 40 حرمًا جامعيًا بعد تصاعد وتيرة الاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين عقب انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقد برز مطلب سحب الاستثمارات أساسيًا فيها. وجدير بالذكر أن جامعة كولومبيا كانت في مقدمة هذه الجامعات؛ لأنها تعدّ الأولى في قيادة الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية.
التحركات المطلبية حينها لم تحقق غاياتها، وبالرغم من رفض إدارات الجامعات لمطلب سحب الاستثمارات إلا أن التظاهرات أصبحت أكثر تنظيمًا مع حلول العام 2005، لا سيما مع ظهور “حملة مقاطعة إسرائيل– BDS” التي دعت إلى سحب الاستثمارات من الكيان المحتل وفرض العقوبات عليه. وقد عُرفت هذه الحملة بأنها الأكثر إزعاجًا للعدو خلال العشرين عامًا الماضية، بسبب النجاحات التي تمكّنت من تحقيقها في عدد من الجامعات الأميركية عبر إجبارها على سحب الاستثمارت، والنجاح في هذا الأمر يعني زيادة شعور الصهاينة بأنهم منبوذون على الساحة الدولية.
الأمر حصل أيضًا في العام 2015، حين تقدم الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بطلب إلى الـ FIFA، لتعليق عضوية “إسرائيل” في الاتحاد الدولي لكرة القدم، وبالرغم من سحب الاقتراح من التصويت عليه في اللحظات الأخيرة، إلا أن هذا الأمر استفز الحكومة الصهيونية جدًا ولا سيما نتنياهو، ما دفعهم إلى استنفار جهودهم لمحاصرة جهود حملة المقاطعة وأي محاولات لسحب الاستثمارات.
في هذا السياق، تشير التقارير إلى أن الحكومة الصهيونية خصصت، في العام 2016، لوزارة الشؤون الاستراتيجية ميزانية سنوية قدرها 20 مليون جنيه استرليني (100 مليون شيكل) لإدارة هذا الملف. وقد تضاعفت قيمة الميزانية لاحقًا لتصل إلى 40 مليون جنيه استرليني (200 مليون شيكل)، لكن كلّ هذه النفقات لم تأتِ بأي إنجاز يُذكر للصهاينة.
هذا الفشل أتى بالطبع على لسان جماعات الضغط الصهيونية، في تقرير نشر في العام 2016، وتضمن اعتراض هؤلاء على النتائج المتوفرة حينها. إذ وفقًا للتقرير النتائج كانت أقل بكثير من المتوقع، علمًا أن الانفاق الحكومي على هذا الملف كان أعلى بـ 20 مرة مقارنةً بالعام 2010.
بعد هذا الإخفاق الكبير في محاصرة جهود المقاطعة ودعوات سحب الاستثمارات، عمدت الحكومة الصهيونية إلى اعتماد استراتيجيتين كبيرتين ما تزالان مستمرتين إلى اليوم. الأولى تتعلق بالاستهداف المباشر لكل فرد أو كيان يدعم أو يناصر القضية الفلسطينية ويدعو الجامعات إلى سحب أموالها، ويتمّ ذلك عبر التشهير به باستخدام مواقع إلكترونية مخصصة لهذا الغرض، يأتي في مقدمتها موقع “CANARY MISSION”. والاستراتيجية الثانية تركز على المنحى القانوني، وتحديدًا العوائق القانونية التي تمنع تطبيق قرارات المقاطعة وسحب الاستثمارات، وقد تمكّن اللوبي الصهيوني في السنوات الأخيرة من تمرير قانون يمنع مقاطعة “إسرائيل” في 32 ولاية أميركية لغاية العام 2020.
هذه الاستراتيجيات لم تمنع طلاب الجامعات الأميركية من استئناف احتجاجاتهم في نيسان/أبريل المنصرم، بل على العكس، كانت هي الأكبر في تاريخ الجامعات الأميركية. وقد طالب المحتجون إدارة الجامعات بأمرين: الأول وهو الكشف عن حجم استثمارات الجامعات في “إسرائيل” والشركات المرتبطة بها، والأمر الثاني هو سحب هذه الاستثمارات وتجميدها.
في هذا الإطار، قد يتساءل البعض عن أهمية كشف قيمة الاستثمارات، إلا أن الأمر يبدو أكثر وضوحًا حين يعلم القارئ أن في الولايات المتحدة الأميركية ما يقارب الـ 700 مؤسسة تعليمية جامعية، ويبلغ مجموع الأوقاف لديها 840 مليار دولار، لكن حجم الاستثمارات لصالح الكيان المحتل هو غامض جدًا وغير معروف، مع العلم أن بياناتٍ صادرة عن وزارة التعليم الأميركية أفادت مؤخرًا عن وجود ما لا يقل عن 100 جامعة أميركية بلّغت خلال الـ20 سنة الماضية عن عقود واتفاقيات مع “إسرائيل” بقيمة 375 مليون دولار، ولكن هذه البيانات تبقى بدورها غامضة وغير دقيقة، لا سيما مع تكتم إدارات الجامعات عن الكشف عنها، يأتي في مقدمتهم رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، والتي استبعدت تمامًا تحقيق هذا المطلب.
يبدو إذًا أن مطلب سحب الاستثمارات يشكّل عقدة كبيرة بالنسبة إلى كيان العدو، وضربة موجعةً له على الصعيدين المادي والمعنوي. وكلّ محاولاته في منع حدوث هذا الأمر تصبّ في خانة سعيه الدائم منذ لحظاته وجوده الوهمي بأن يجد لنفسه مكانًا على هذه الأرض، وكيانًا ماديًا ومعنويًا يليق بإجرامه، والأهم أن يكون مقتدرًا على تمويله، تارةً من جيوب حلفائه واستثماراتهم، وتارةً أخرى من دماء الأبرياء وأشلائهم.