الرئيسية / المرأة في الإسلام / المرأة مع النبي (صلى الله عليه واله) في حياته وشريعته – الشهيدة بنت الهدى

المرأة مع النبي (صلى الله عليه واله) في حياته وشريعته – الشهيدة بنت الهدى

ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة أخرى لينتزع منه أمه، وهو لا يزال طفلا طري العود.. يصحبها في سفرة تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن، وفي وسط الطريق، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة بأمه وينتزعها الموت من بين يديه.
ويعود محمد الصغير يتيما مرة أخرى أو بعبارة أخري يتيما مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حنان الأبوة وبعطفه عن عطف الأمومة.
وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه.
وتكفله فاطمة بنت أسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة. تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع.
وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمدا يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأنا يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها، وعواطفها، وكانت

(١٨)

تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر، ثم يكتمل شبابه ويغدو رجلا ملء السمع والبصر.
كانت ترى فيه حصنا ورصيدا لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء. ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيرا.
فمحمد هو أول شخص أبتسم له ابنها علي بعد إذ خرجت به من الكعبة، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين، فهي لا تنسى أبدا أن عليا ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها، وها هو عليها العزيز، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبد الله ومحمد رسول الله أيضا بعد إذ غدا شابا.
وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقا، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة.
وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقا بتكاليف

(١٩)

العيش، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوما واحدا في كل الظروف والملابسات.
وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له، وتفرح فيه فهي تكبر محمدا وتعجب فيه وتعتمد عليه، وتركن إليه، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه.
فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة أمه قال:
إن أمي قد توفيت يا رسول الله، فيرد عليه رسول الله بل أمي أيضا يا علي.. وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للابن الفاقد أمه، وما تعطي للأمة من دروس في الوفاء والإخلاص، وحفظ الجميل، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها سترا ومعاذا، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيرا ويستعيد في فكره أيامها معه، إذ هو طفل صغير، وحنانها عليه حينما كان يتيما وحيدا، ورعايتها له وهو شاب فتي. وأخيرا قام عن قبرها وهو حزين كئيب.

(٢٠)

فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد.
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالا وجمالا ومكانة، وكرامة، فهي سليلة دوحة ثابتة الفروع، وفرع شجرة عميقة الجذور، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية، وثبات الفكرة وصواب الرأي، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضا، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أمينا صادقا مخلصا. فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة.
ومحمد بن عبد الله كان يفتش بدوره أيضا عمن يدفع له مالا يتاجر له به. فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعا، ولكنه لم يكن ليستغني عما

(٢١)

يحتاج إليه غيره من رجال قريش. ويسمع كما يسمع غيره أن خديجة بنت خويلد تفتش عمن يتاجر لها بمالها فيتقدم إليها عارضا عليها استعداده للقيام بهذه المهمة.
وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول بل بالرضاء، والاطمئنان فهي تعرف محمد بن عبد الله وتعرف عنه الكثير أيضا، ولم يكن في مكة من لا يعرف محمدا الصادق الأمين.
فخديجة راضية لهذه الشركة ومتفائلة بها خيرا وتدفع له أموالها، وهي واثقة من أنها قد سلمتها ليد أمينة حريصة على أداء الأمانة، ولذلك فقد أخلدت إلى راحة نفسية عميقة وظلت تنتظر رجوع محمد بن عبد الله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمد، ورجع محمد ورجع معه ميسرة.
وكان صلوات الله عليه يحمل لها معه الربح الزاكي الوفير وتخلد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمن رافق في السفر وتحلف عليه أن يشرح لها كل ما وجده منه وما رآه عليه، وهي على شبه يقين من أن غلامها سيقص عليها من أمر رفيقه عجبا، وغلامها مندفع يعدد لها مناقب محمد، ويصف لها حركاته وسكناته والإعجاز في

(٢٢)

شاهد أيضاً

منهج في الإنتماء المذهبي – صائب عبد الحميد

ما الذي يحملني على الإعتقاد – إلى حد التسليم – بأن مذهبي الذي ورثته عن ...