حرية التعلم مراعاة كاملة ويصرح بوجوب تعلم العلم والحكمة من أي إنسان ولو كان ضالا أو مشركا.
إلا أنه يجب أن نعلم بأن الاسلام يمنح الحرية لأصحابه في استيعاب الحقائق العلمية الصحيحة، لا لكل تقليد أعمى وسلوك أهوج.
إن كثيرا من الناس في بلادنا بهرتهم المدنية الغربية وجمالها إلى درجة أنهم أخذوا يحسون بالحقارة والتصاغر في نفوسهم تجاهها، ويتنكرون لتراثهم الخالد وتعاليمهم الدينية القيمة، حتى ظنوا أنه لم يكن للمسلمين وجود إنساني فيما مضى أصلا، ولا قيمة لماضيهم المجيد وتراثهم الخالد… هؤلاء يظنون أن كل ما هو في أوروبا وأمريكا وكل ما يجري على الناس هناك حسن وصحيح وجدير بالتقليد، ويبدو لهم أن الطريق الوحيد للسعادة منحصر في اتباعهم من دون تعقل أو روية، غافلين تماما عن أن هناك مساوئ كثيرة في تلك البلدان في قبال بعض المحاسن التي يرونها.
فالعاقل – إذن – هو الذي يقلد محاسن الأمم المتقدمة ويجتنب عن مساوئها.
حسن الاقتباس:
وبهذا الصدد يقول القرآن الكريم: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب» (1) وقد ورد في الحديث: «خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء» (2).
فلو كان مجتمعنا الاسلامي قد تمسك بتعاليم القرآن الكريم واختار حسنات المدينة الحديثة وتجنب سيئاتها، لكان قد حصل على نجاح باهر في مجالات
(٢٨)
مختلفة إلى هذا الحين … ولكن المؤسف أن الأمر على عكس ما يريده لنا القرآن. فنجد تقليد المدنية الحديثة في علومها وتكاملها وفي مجالات البحث والاختراع أقل – بكثير – من تقليدها في مجالات الانقياد للشهوات وشرب الخمر والميوعة والتحلل والفساد. فبينما نجد الشرقيين يسبقون الغرب في الجانب الثاني، نجدهم في ركب متأخر عنهم في الجانب الأول ومع ذلك كله، فالأمل لا يزال يحدونا إلى استعادة استقامة سلوكنا والأخذ بمنهجنا القرآني الصحيح الكافل لسعادتنا ورقينا وازدهارنا، والفرصة لا تزال سانحة للرجوع إلى اقتباس ما هو حسن وصالح من الغرب، وترك ما هو مضر وفاسد فيه.
… هذا فيما يخص الجهة الأولى من استشهادنا بأقوال العلماء الغربيين وبحوثهم في محاضراتنا هذه.
أما بالنسبة إلى الجهة الثانية، فهي أن يتعرف المسلمون على حقيقة دينهم كثر فأكثر ، ذلك لأننا نحاول – في محاضراتنا هذه – أن نستقصي الآيات القرآنية والنصوص الواردة بشأن (تربية الطفل) وما يتعلق به، ونبحث عن الجوانب العلمية والنفسية التي أتت عليها، ثم نستشهد – بالمناسبة – بنص العبارات الواردة في بحوث علماء النفس والتربية الغربيين وكتبهم، وبذلك نقارن بين ما ورد في تعاليم الاسلام وما ورد في بحوث أولئك العلماء، فتتضح عظمة التعاليم الاسلامية للملأ، ويعرف المسلمون أن البحوث والتحقيقات التي يجريها علماء الغرب والجهود التي يبذلونها للوصول إلى الحقائق العلمية ليست أمرا جديدا للبشرية، بل جاء نبي الاسلام وأوصياؤه من بعده يشيرون إليها قبل أربعة عشر قرنا، ويفيضون بها على الناس من منبع الالهام والوحي الآلهي.
وبديهي أنه كلما ظهرت القيمة العلمية للاسلام أكثر، ازداد الناس – والطبقة المثقفة منهم بالخصوص – إذعانا وإحتراما لعظمة الاسلام والقرآن. وأي هدف أعظم من توجيه عقول البشرية إلى نور الاسلام وعظمته؟!.
(٢٩)
اتباع العقل:
يسأل يعقوب بن السكيت من الامام الرضا (ع) أسئلة حول معاجز الأنبياء، وبعد أن يجيبه عن تلك الأسئلة، يسأله عن الحجة القاطعة والدليل الساطع على نبوة النبي محمد (ص) قائلا: «فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (ع): العقل» (1).
يشير الامام الرضا عليه السلام بكلامه هذا، إلى أن الأفراد يجب أن ينظروا في تعاليم القرآن بنظر العقل والدقة، ويوجهوا أفكارهم إلى حقيقة ساطعة هي: أن النبي (ص) قام في عالم مظلم ودور جاهلي أهوج، في الحجاز… حيث مظاهر البداوة والتفرقة والحزازات، حيث لا مدرسة ولا مكتبة، ولا حديث عن العلم والعالم، ولا أثر للمنطق والتفكير… قام في مثل ذلك الدور العصيب – وهو أمي لم يدرس عند أحد – فأخذ يدعو الناس إلى الايمان، بحماس وثبات شديدين ويهديهم إلى شاطئ الأمن والسعادة، وأخذ يقول في كل شيء كلمته بمنطق صحيح ودليل قاطع، ووضع القوانين لكل جانب من جوانب الحياة، وأخذ بيد تلك الأمة المتأخرة إلى حيث العزة والكمال والعظمة… ولا تزال تعاليمه الرصينة تهب الحياة للبشرية من دون أن تفقد قيمتها العلمية والاجتماعية… في مثل هذه الظروف وعلى مثل هذه الأوضاع يحكم العقل – بلا تردد – بأن البشر العادي – سواء في أمسه أو يومه – يستحيل عليه أن يقوم بعمل جبار كهذا ويترك هذه الآثار العظيمة في الجوانب المختلفة من الحياة. فليس ذلك النبوغ وتلك العظمة وهذه الرصانة في التعاليم إلا نتيجة الاتصال الوثيق بخالق الكون عن طريق الوحي والالهام.
«إن اتبع إلا ما يوحى إلي» (2).
وليس معنى الايمان بالنبي والنبوة إلا هذا الاعتقاد بالارتباط المعنوي بين النبي ( ص) والله تعالى وكونه سفيرا له على وجه الأرض، لهداية البشر إلى
(1) إثبات الهداة ج 1 / 80.
(1) سورة الأحقاف، الآية: 9.
(٣٠)