الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. النساء / 69.
هذه نواح تكشف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما هو إنسان كامل حتى في نظر زوجته ومولاه ومرافقه، هؤلاء الذين تنكشف لهم على الخصوص أخفى نواحي النقص، وأدق نقاط الضعف.
هكذا كان صلوات الله عليه في نبوته وقبلها.
هكذا كان في محيطه الضيق، وفي محيطه الواسع.
ولهذا ولكونه الرجل الكامل والإنسان الكامل، بعثه الله بالنبوة، وحمله ثقل أقدس رسالة بعثت للناس.
وهكذا بعث محمد الرجل الأول والإنسان الأول ليكون النبي الأول. وكانت خديجة من ورائه تساند وتعاضد. فما أكثر ما امتحنت وإياه، وما أكثر ما شدد عليهما الكفار وتهددت حياتهما بالخطر، وما أكثر ما رجع إليها الرسول وهو مصاب بجروح ورضوض من قبل الأعداء ولم تكن لتزيدها هذه الأحوال إلا صمودا ولم تكن لتهبها إلا قوة وعزيمة وثبات إرادة.
فقد نفذ نور الإسلام إلى الأعماق من روحها وفكرها فاستنارت بنوره واهتدت بهداه ومن خصائص الإسلام
(٣٣)
ومميزاته بوصفه عقيدة ثورية تتسق مع الفطرة والعقل وتغمر الوجود الإنساني كله أنه إذا استقر في قلب، وأي قلب كان، فتح أمامه أبوابا للتضحية والفداء. فما أكثر النساء المسلمات اللاتي قدمن الضحايا من الآباء والأبناء وهن أكثر ما يكن ثباتا وقوة. بل وكن يستهن بالموت من أجل القضية الإسلامية أمثال أم عمار بن ياسر التي صمدت على كلمة الإسلام أمام كل الوسائل الوحشية التي أتخذت لتعذيبها والتنكيل بابنها وزوجها، وكان رسول الله يمر عليهم وهم يعذبون فتطفر الدموع من عينيه ويبشرهم بالجنة نزلا. وكثير غيرها من النساء المسلمات اللاتي اعتنقن الإسلام في أحرج أدواره وأشدها ولكن المجال لا يتسع لنا لذكرهن جميعا ولعلنا سوف نلتفت إلى هذه الناحية من حياة المرأة المسلمة في رسالة خاصة تبين مواكبة المرأة للإسلام وأثرها في الدعوة الإسلامية.
فقد كانت المرأة المسلمة تذهب إلى ساحات الجهاد لتشجع إخوتها وأولادها على خوض غمار الحرب وهي معهم تطبب وتداوي وتسقي العطشى وتعين المصاب. ولا يزيدها فقد الأولاد والأخوة والأعمام إلا حرصا على الإسلام وتفانيا فيه.
(٣٤)
وقد كانت المرأة المسلمة تسمع بأذنيها نعي أعزائها وأحبائها وهي لهفانة في الوقت نفسه للإطمئنان على سلامة رسول الله. وعلى هذا فلا عجب إذا إذا كانت خديجة زوجة الرسول أول مصدقة به وأقوى ساعد لديه. والواقع أنني حينما أراجع سير النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهن ومواقفهن أكاد أسأل جادة هل نحن مسلمات حقا.
هذا الإسلام هو الذي نور قلب خديجة بعد إذ انبثقت أنواره من غار حراء ومن بيتها هي بالذات. ولهذا فقد كانت خديجة (رض) جديرة بهذا الاندفاع الإسلامي وهي التي اصطفت محمدا لنفسها منذ زمن بعيد، وبعد أن عرفت أنه صاحب رسالة مقدسة، ولذلك فهي لم تفاجأ ولم تستغرب عند سماعها بخبر الوحي الذي نزل على زوجها في غار حراء. وقد قنعت من زوجها بكلمات قلائل سرعان ما صدقته بعدها وآزرته وهي أقوى ما تكون فكرة راسخة مركزة، وإحساسا فياضا صادقا.
واستمرت خديجة أم المؤمنين تحيا بحياة الرسالة المحمدية وتستهين في سبيلها بكل المصاعب والمحن، وقد بذلت في هذا الطريق كل ما تملك من مال حتى
(٣٥)
أصبحت وهي الغنية الواسعة الثراء فقيرة لا تملك شيئا، وقد استنفدت بدعوتها رصيدها الضخم من المال ولم يبق منه حتى النزر القليل. فهي تطوي جوعا إذا طوى النبي وتشبع إذ يشبع بالذي يشبع فيه، وهذا يبين مدى التفاوت بينها وبين باقي أمهات المؤمنين.
الفارق الذي جعل رسول الله يحن إليها إلى آخر يوم من حياته الشريفة.
فهي قد بذلت للإسلام كل ما تملك يوم كان الإسلام وحيدا. وصلت مع رسول الله يوم لا مصلية غيرها. بينما احتجت أمهات المؤمنين الأخريات على النبي، بعد أن عمت كلمة الإسلام جميع البقاع وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة عليهن، ولم تثنهن نصائح النبي عن ذلك حتى أنه جاء في الروايات أن أبا بكر دخل على النبي (ص) ومعه نساؤه فوجده حزينا وعرف السبب في ذلك فقام على أبنته يريد أن يجأ عنقها لأنها آلمت الرسول واعترضت طريق دعوته بمطاليبها المادية حتى نزلت الآية الكريمة (1) التي خيرت نساء النبي بين متاع الحياة الدنيا وبين رسول الله (ص) فاخترن صحبة الرسول الأعظم بعد أن قطعت أمامهن السبل. وقد كانت خديجة صلوات الله
(1) سورة الأحزاب آية 28 – 29.
(٣٦)
عليها لا تألو جهدا في بذل يد العون للدعوة الإسلامية بكل ما يسعها ذلك. وقد حدث مثلا أن فرضت قريش على بني هاشم حصارا في منطقة تسمى بمنطقة الشعب أو شعب أبو طالب وقد منعوا عنهم في هذا الحصار الماء والزاد، وكان الموت جوعا يهدد جميع بني هاشم لولا أموال خديجة فإنها كانت تبعث من يشتري لهم الطعام سرا وفي أغلى ثمن، تستنصر وتستعين بأولاد إخوتها وأخواتها على ذلك، وبذلك أمنت الغذاء لبني هاشم المحاصرين في الشعب.
فلهذا ولغيره من المواقف الفذة في تاريخ الإسلام احتلت رضوان الله عليها الصدارة في قلب النبي وفي حياته الشريفة.
وقد توفيت رضوان الله عليها في السنة الثالثة عشر للبعثة وقد حزن عليها رسول الله (ص) حزنا عظيما وكانت وفاتها في عام وفاة عمه أبو طالب، ولذلك فقد سمي ذلك العام بعام الحزن لحزنه على فقدها وفقد عمه أبو طالب. نعم توفيت خديجة المرأة الرابعة التي دخلت حياة النبي في أحرج أدوارها لم تخرج من حياته أبدا فقد خلفت له أغلى وأثمن ذكرى مقدسة، وهي الصديقة
(٣٧)
الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين. وقد جاء في بعض الرويات أنها خلفت للنبي أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة (وسوف نناقش هذا الموضوع في محله إنشاء الله). وقد أصبحت الزهراء قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها. وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بافتقاد أمها خديجة، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل. لم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة. لم تضعف ولم تهن ولم تتردد أو تتراجع. وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلى (1) جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه
(1) السلى: جمعها أسلاء، جلدة يكون ضمنها الولد في بطن أمه إذا أنقطع في البطن هلكت الأم والولد. يقال: انقطع السلى في البطن أي ذهبت الحيلة وعظم الويل.
(٣٨)