الإنفاق في سبيل الله \عز الدين بحر العلوم
4 أيام مضت
زاد الاخرة
4 زيارة
ان القرآن يريد أن يقول لهم :
كلا ليس هذا هو المقياس الحقيقي للأكرام والإهانة كما تتصورونه وان ما تبنون عليه واقعكم
الحياتي إنما هو محض اشتباه وخطأ .
فالانسان عندما يرزق أو يمنع في كلتا هاتين الحالتين إنما هو مورد اختبار وامتحان .
يرزقه ليرى شكره .
ويمنعه ليرى صبره .
ومن وراء ذلك وفي كلتا المرحلتين يجازيه بالنعيم أو بالجحيم .
وصحيح ان مظاهر الأكرام بالإنعام والعطاء .
ولكن الاهانة ليست بتقدير الرزق والمنع ، بل الاهانة يستحقها الفرد لعدم قيامه بما يفرضه
عليه الواجب الإجتماعي العام اتجاه من هو ضعيف .
وتبدأ الآيات في ختام المطاف تعرض نماذج تتجسد فيها الحاجة إلى الغير والتي بتركها
يستحق الإنسان الإهانة وعدم التقدير :
« كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولاتحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما *
وتحبون المال حباً جما » .
« كلا بل لا تكرمون اليتيم » :
عدم اكرام اليتيم نموذج من نماذج اهانة الإنسان المتمكن
===============
( ١٠٢ )
للطبقات الضعيفة المحرومة ذلك الإنسان الذي اعطاه االله وأنعم عليه فلم يراع تلك النعمة ليكفي
اليتيم ـ وعلى سبيل المثال ـ من التكفف والتسول .
تقول بعض المفسرين معلقاً على هذه الفقرة من الآية : « والمعنى أن الاهانة ما فعلتموه من
ترك اكرام اليتيم ومنع الصدقة من الفقير لا ما توهموه » من ان المقياس هو ما لو قدر االله على
. (١) أحدٍ من العباد
وقد جاء عن النبي ( صلىاالله عليه وآله وسلم ) قوله :
. (٢) « أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بالسبابة والوسطى »
هذا هو الكلام الذي جعل كافل اليتيم مع النبي ( صلى االله عليه وآله ) في الجنة ، وطبيعي أن
يكون في قباله من ترك اليتيم ولم يرعه ولم يعط حقه .
وقد حث القرآن الكريم في آيات أخرى على اطعام اليتيم وجعله من الأسباب الموجبة لاقتحام
العقبة التي تقف بين الانسان وبين وصوله إلى الجنة فقال سبحانه :
( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً
. (٣) ذا مقربة )
ويوم ذي مسبغة : أي يوم المجاعة فمن أطعم يتيماً من ذي
____________
(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية من سورة الفجر .
(٢) مجمع البيان في تفسيره | آية : ١٠ من سورة الضحى .
(٣) سورة البلد | آية : ١١ ـ ١٥ .
===============
( ١٠٣ )
قرابة ـ وليس معنى ذلك تخصيص الاطعام به ، بل هو من باب الزيادة في الأجر لأنه رفق
باليتيم وصلة للرحم ـ كان ذلك موجباً من موجبات اقتحام العقبة الكؤد .
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول االله ( صلى االله عليه وآله وسلم ) :
« من أشبع جائعاً في يوم سغب ادخله االله يوم القيامة باباً من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من
. (١) فعل مثل ما فعل »
« ولا تحاضون على طعام المسكين » :
أي لا يحث بعضكم بعضاً علىهذا اللأمر ، وهو نموذج ثانٍ من نماذج الأهانة حيث يتركون
المسابقة إلى اطعام المسكين المعدم يتركه من عنده ، وفرة من المال يغالب آلام الجوع في يوم
مسغبة قال عنه القرآن .
« أو مسكيناً ذا متربة » :
هذا المسكين الذي لواه الجوع فألصق بطنه بالتراب من شدة جوعه يبقى يتحمل هذه المجاعة
وفي نفس الوقت يبيت جار له وقد أتخم من الأكل لا يشعر بما يفرضه الواجب أزاء هذه الطبقات
المنكوبة .
وهذا مقياس من مقاييس الفقر .
ونبقى نحن والفقرتين الباقيتين من هذه المقاييس .
« وتأكلون التراث أكلاً لما * وتحبون المال حبا جما » :
____________
(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
===============
( ١٠٤ )
وقد جاء في التفسير أن أكل التراث أكلاً لّماً بمعنى الأكل من غير تروٍ لما يأكل من خبيث
وطيب ، أو أنه يأكل ماله ومال غيره .
وتحبون المال حباً جماً شديداً ، ولاتفكرون ان هذا المال سيكون وبالاً عليكم إذا جمعتموه ولم
تعطوا حق الفقير منه .
===============
( ١٠٥ )
ج ـ الترهيب والتخويف على عدم الانفاق :
وهذا هو الطريق الثالث الذي يسلكه القرآن الكريم مع الذين يبخلون بالمال على غيرهم من
المحتاجين انه طريق الترهيب والتخويف من عواقب هذا البخل وهذه الشحة .
وقد عرضت الآيات هذا المعنى علىنحو التدرج من اعطاء صور مخففة عن العذاب وأخرى
مشددة ، أوبالأحرى اتخذت طريقين إجمالياً وتفصيلياً ، فأجملت آية وفصلت اخرى
أما الآية المجملة فهي قوله سبحانه :
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم االله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيطوقون
. (١) ما بخلوا به يوم القيامة والله ميراث السماوات والأرض واالله بما تعلمون خبير )
ويبدأ الحوار بقلب المفاهيم التي بنى عليها البخلاء نظرياتهم ، فالبخيل يتصور أن عدم الإنفاق
وجمعه للمال إنما هو رصيد يتمتع به في كل وقت ويدخره إلى اليوم الأسود ، ولكن الآية الكريمة
تقلب له هذا المفهوم وتبين له الخطأ الذي بنى عليه نظريته .
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم االله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم ) :
____________
(١) سورة آل عمران | آية : ١٨٠ .
===============
( ١٠٦ )
وتكمن نقطة . الخطأ في هذا التصور الذي يوصله إلى النتائج العكسية فهم يتصورون ان جمع
المال خير لهم لأنهم يكنزونه ، ولا يبعثرون به هنا وهناك .
ولكن ذلك شر لهم ووبال عليهم لأنهم :
« سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة » :
ان هذا المال الذي بخلوا به وشحت به نفوسهم الرذيلة سيكون طوقاً من نار تقلد به رقابهم في
يوم القيامة .
ثم ما هذه الشحة بالمال ، ولماذا هذا البخل ، والتلكؤ في اسعاف المعوزين ؟ .
وهذا المال مال االله ، وليس لهم منه الا ما يساعدهم على ادارة الحياة .
ففي البداية هومال االله وقد تفضل به عليهم والله ملك السماوات والأرض يهب من ملكه لعباده
ما يشاء ، ويمنعه ممن يشاء .
وفي النهاية سينقل ما جمعه من حلال وحرام لوارثه ، ولا يأخذ منه شيئاً عدا ملفوفة من
القماش البسيط يكفن بها ويستر بها جسمه ، وسيكون ضيفاً على « حفرة لو زيد في فسحتها
. (١) وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسد فرجها التراب المتراكم »
____________
(١) فقرة من كتاب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ارسله الى عامله على البصرة عثمان بن حنيف | راجع نهج
البلاغة ـ فسم الرسائل | رسالة رقم (٤٥) .
===============
( ١٠٧ )
ولم تزد الآية الكريمة لذكر الجزاء على أن ما بخلوا به من المال سيكون طوقاً في رقابهم لا
أكثر .
ولكن هذا التخويف يتطور في الآية الثانية فيعرض صورة أشد وخزاً فتظهر معالمه من خلال
الفقرات التالية في قوله تعالى :
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل االله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى
عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوفوا ما
. (١) كنتم تكنزون )
أي منظر تتحدث عنه هذه الآية الكريمة وأي انسان لا يتقزز وهو يشاهد هؤلاء الذين يكنزون
الذهب والفضة يعذبون بهذه الصورة الموحشة ؟ .
ورويداً مع الآية الكريمة لنسير معها ولنقف عند مقاطعها لنستوعب ما تحمله بين طياتها من
صور الترهيب والتخويف .
« والذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل االله فبشرهم بعذاب أليم » :
والأنفاق في سبيل االله عنوان عام يشمل الإنفاق بنوعيه الإلزامي كالزكاة والكفارات والتبرعي
كالصدقات .
وقد بدأت الآية بالاخبار عن جزاء هذا الكنز وعدم الانفاق فأعطت صورة موجزة ، وقد
مهدت بذلك الأذهان لصورة فصلت بها نوعية العذاب.
____________
(١) سورة التوبة | آية : ٣٤ ـ ٣٥ .
===============
( ١٠٨ )
أما الايجاز فقد جاء من خلال قوله تعالى :
« فبشرهم بعذاب أليم » .
أما ما هو ذلك العذاب الذي وصفة القرآن بأنه « أليم » ؟ ويأتي الجواب التفصيلي لعرض
صورة هذا النوع من العذاب الأليم .
« يوم يحمى عليها في نار جهنم » :
وهل يحمى على نفس الأموال الذهب والفضة ، والتي كنزت ، ولم تنفق أم انها تجمع فتكون
صفائح ، ويحمى عليها كما جاء ذلك في حديث عن النبي ( صلى االله عليه وآله ) أنه قال :
« ما من عبد له مال ، ولا يؤدي زكاته إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم
« (١) .
وعلى كل حال ليس تحقيق ذلك بمهم ، بل المهم هو معرفة المراحل التي تلي هذه العملية
بعدما يحمى عليها ، وقد أوضحت الآية ذلك في قوله عز وجل .
« فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم » :
وهي أهم أعضاء البدن وأبرزها تكوى بتلك الصفائح ، أو بتلك الكنوز الذهب والفضة المحماة
، وقد جاء عن رسول االله ( صلى االله عليه وآله ) في تكملة الحديث المتقدم :
« وتكوى بها جبهته ووجهه وظهره وحتى يقضي االله بين عباده
____________
(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
===============
( ١٠٩ )
. (١) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون »
وبعد ذلك تأتي الآية الكريمة على ختام هذا الحوار الترهيبي فتقول :
« هذا ما كنزتم لأنفسكم » :
وقد جاء في التفسير أن هذا القول يخاطبون به في حالة الكي والاحراق .
هذا ما كنزتم ومعناه ، هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم ، وكنتم تتخيلون أنه خير لكم وإذا به شر
لكم ، وحيث تصل الآية إلى هذا الختام يسدل الستار على تلك الأجسام العفنة بمنظرها البشع ،
وصوت من وراء الغيب يوعدهم قائلاً :
« فذوقوا ما كنتم تكنزون » .
شروط الإنفاق :
الإسلام عندما يقوم بهذه الحملة الاعلامية الواسعة لموضوع الإنفاق من خلال الآيات والأخبار
وتشويق الأفراد وحثهم على التسابق إليه لا يقصد من وراء ذلك اعطاء الفقير المال وانعاشه مادياً
وتخليصه من ويلات الفقر فقط ، بل يريد ذلك ـ وفي الوقت نفسه ـ ان يجعل من هذه العملية
قضية اصلاحية لكلا الطرفين المعطي والفقير .
المعطي : ليهذب نفسه ويصقلها ويروضها على فعل الخير
____________
(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
===============
( ١١٠ )
2025-11-14