ملِكُ الموت والحياة
4 أيام مضت
الشهداء صناع الحياة
19 زيارة
الوثبْةُ الأُولى
إنّ أجْمَل لِباسٍ يرْتديه المرْءُ هو لِباس التّقوى؛ فالفضائل الّتي تحلَّى بها الأنبياء، والمكارمُ الّتي تَباهَى بها العُظماء، والكمالات المحْتَدِمةُ في صُدور الموْهوبين والمتأدِّبين، هي الجواهرُ الثَّمينة والدَّفينة في خزَائن الحياة المحْفوفة بالمخاطِر والمكاره، بلْ إنّها السُّدود المعْنويّة، الّتي تحولُ دون انْجراف الأمم إلى الْحضيض المشْؤُوم وانْحراف المدنيّة عن مَسَالك الأمن والسَّلامة؛ فالأخلاق الكريمة تجسِّد سلامةَ المدنيَّات، وتصون لُبابَ الثّقافات، وهي أيضًا الرَّادع الأَقْوى للكوارث والمجاعات والحُروب، والرَّافع الأعْظم للبِنَاء الْحَضَاريّ الّذي تَنْشُدُه الشُّعوب، في مَراحل تَطَوُّرِها ومعارج تكاملها.
وعِماد حيدر بَطَل قصَّتنا هذه، جَمع ثرْوته الخلُقيَّة من مناجم كيْنونَته ومَواقع أصالته، إذْ ورِث الوطنيّة والتَّضحية والوَفَاء عن عَشيرته الّتي ناوأتِ الاستعمار والهَوَان في عصْر الانتداب البغيض، وعن أهْلِه الّذين صَدَقوا الله فأعْطاهُم الأمل، وصَادقوا الأرْض فوافَتْهم بالأقْوات، ونَظَر إلى ما حَوْلَه
من الكائنات فاسْتهان بِها واندَفَع نَحْوها، بضرورة الاسْتخلاف وقوَّة الاسْتمرار، وقلَّب بصيرتَه في صفَحات الكُتُب وحواشِي المجلَّدات، فأضاءتْ زوايا عاقِلته، وحملتْه على أجْنحة الخيال إلى حقائق الماضِي ودقائق الحاضر، ثمَّ التأَم مع ذاته، وأحبَّها حبًّا جمًّا حتّى اقترنَ بِها، مُحصِيًا حَسناتِها وسيّئاتها، محاسِبا إيّاها حسابًا عسيرًا، قبْلَ فَناءِ الأَزْمان وفَوات الأوان، مستعينًا بالرَّحيم الأرحم والكريم الأَكْرم، الّذي اصْطَفاه عبدًا مُطيعًا تزكِّيه العبادة المجرَّدة، والمعاملةُ المؤيَّدة.
بيْن اجتهاده الأفْضَل وَوَرَعهِ الأمثَل توقَّد فِكرُهُ وتشعَّب أمرُه، ولم تتَّسع ثانويَّة جبيْل ومنزلُه الأَبَويّ، لِمراميه البعيدة، وأُمنياته العديدة، وغاياته الرّشيدة، فغادر تلك الرّبوع، يدْفعُه حِرْصه على النَّجاح في الدّنيا، والفلاح في الآخرة، إلى الحوزة الدينيّة في بيروت حيث التّعفف يصاحب التَّهجُّد، والانْضباط يلازم الارْتباط، والسّعادة تُعانق العِبادة.
وارْتسمتْ طرائقُه، واخْتمرتْ مآربُه، وابتهجتْ سَرائرُه بالعِلْم الّذي يقوده إلى الهدى، والتّبتُّل الّذي يطهِّره من أقذار الشّهوات وسُموم الموبِقات.
استقبلَ المعهدُ الشّرعيّ الإسلاميّ، القابع في قلْب ضاحية بيروت الجنوبيّة، طالبَه الجديدَ، بحفاوة بالغة وفرَح جارف، فإدارة المعهد السّاهرة، وأساتذتُه المجتهدون، حريصون على زيادة عديد المنتسبين إلى هذا الصَّرح التعليميّ الرّائد، ولا سيّما النابهون والأذكياء، فكان قدوم عِماد بنهجه الأصيل وخطوه النّبيل وروحِه الوثّابة بارقة أمل ثاقب يواكب مؤسَّستهم ويُوائم رغبتَها في تخريج كوكبة من العلماء الإلهيّين، الّذين ينذرون أوقاتهم للهدْم والبناء، في حاضرٍ قلقٍ ومستقْبَل مجْهول مُتعطّشٍ للإرْشاد والازْدهار.
بدَأَ عِماد الزَّاهدُ في المادَّة ووشائِجِها، الرّاغبُ بما وراءَ الأَعْراض الزّائلة من جواهرَ حيَّة، دوْرة حياته الحوْزوّية، الحافلة بالاسْتقراء والاسْتيعاب.
غرِق بين المجلَّدات الضّخْمة والمقاصد الغامضة، غاص في عُباب اللّغة والفِقْه، واسْترسل متجوِّلًا بيْن الفلْسفة والتاريخ، ينقّب بلا كللٍ عن الوثائق والحقائق، مقارنًا بين المذاهب الفكريّة مستنطِقًا المعاني المبْهَمة، مستفسرًا عن كلّ ما تراه عيناه وما تسمعُه أُذُناه.
فارسُ المعرفة الّذي لا يترجَّل، عطشانُ من كرام المسافرين، ينْهلُ من بُطون القرآن ومنابع الحديث، رائدُه صبْرٌ لا ينْثلِم، ورفيقُه كتابٌ لا ينْغلق، تضطرمُ جوارحُه حماسةً، وتتسارعُ خطواتُه لَجاجة، رائدُه الحضور عند المهمّات الصّعبة، وغايته العبور على العقَبات الكأْداء،
يُعرِّض فؤاده للوهَن، وعيْنيه للعَياء، فهو يَودُّ اجتياز المسافة القصيرة بين المهْد واللَّحْد في برهة خاطفة، حاملًا على كاهله الأمانةَ الكونيَّة، الّتي أشْفقت الجبالُ من حَمْلها، أمانة خِلافة الأرْض الّتي يرثُها عبادُ الله الصّالحون.
2025-02-01