الرئيسية / القرآن الكريم / مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) – الشيخ جعفر السبحاني – ج 1٠

مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) – الشيخ جعفر السبحاني – ج 1٠

* الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق ذهب لفيف من متكلمي الإسلام – وللأسف الشديد – إلى جواز التكليف بما لا يطاق، ولم يصغوا لنداء العقل ولا الشرع، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحة التكليف بما لا يطاق.
وقد اتخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلى الحق.
1 – * (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون * أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) *. (1) استدل الإمام أبو الحسن الأشعري (260 – 324 ه‍) على أنهم كانوا مكلفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فدل على جواز التكليف بما لا يطاق.
وهذا الاستدلال يتبدد بالتوضيح التالي:
وهو أنهم وإن كانوا مأمورين مكلفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقرونا بهم منذ بلوغهم وتكليفهم، وإنما أدى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار، فقد سلبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها، وآذان لا يسمعون بها، يقول سبحانه: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم
(١) هود: ١٩ – 20.
(٣٢)

أضل) *. (1) إن التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيئة في القلوب على وجه يتجلى الحسن سيئا والسئ حسنا، يقول سبحانه: * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون) *. (2) فالآية تصرح بأن اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات الله.
فتحصل من ذلك أن عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة، كما يقول سبحانه: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير) *. (3) 2 – * (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) *. (4) استدل الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق، وقال:
فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
ولكن غاب عنه أن لصيغة الأمر معنى واحدا وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء، هي بعث المكلف نحو الفعل جدا، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة، وأخرى تكون الغاية أمورا
(١) الأعراف: ١٧٩.
(٢) الروم: ١٠.
(٣) الملك: ١٠ – ١١.
(٤) البقرة: ٣١ – 32.
(٣٣)

غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه: * (كونوا قردة خاسئين) * (1) والإهانة مثل قوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (2) ، أو التمني مثل قول امرئ القيس في معلقته:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي * بصبح وما الإصباح منك بأمثل إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
3 – * (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) *. (3) استدل بها الشيخ الأشعري على مقصوده، وقال: إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.
والحق أن الإمام الأشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجل من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جد وإرادة حقيقة، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا، والآية بصدد بيان أنهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال، وعند العجز – بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأم أعينهم – هموا بالسجود ولكن أنى لهم ذلك.
وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة:
أ: * (يوم يكشف عن ساق) * كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه، لأن الإنسان
(١) البقرة: ٦٥.
(٢) الدخان: ٤٩.
(٣) القلم: ٤٢ – 43.
(٣٤)

شاهد أيضاً

كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌ 3

الملائم للمحبّ و أي شي‌ء أتمّ ملاءمة من نفسه و دوام وجوده و أيّ شي‌ء ...