مما لا شك فيه أنَّ الأمة العربية مفجوعة في وجودها الحضاري أمام أشرس هجمة رجعية استعمارية إمبريالية صهيونية عرفتها في تاريخها، ومفجوعة أكثر بتحول الرجعية العربية إلى أداة في يد الامبريالية والصهيونية لتحقيق هذه الفجيعة خالعة جلباب العروبة والقومية لتلبس جلباب العمالة والارتهان لهذا الغرب المتغطرس والظالم، ومفجوعة أكثر وأكثر بزحف الظلامية والعقل الستاتيكي والتسلل إلى مفاصل المجتمع العربي الإسلامي لتغيير وجه الإسلام المشرق والمبني على التسامح والتعاضد والتآلف والوقوف كالبنيان المرصوص في وجه من يحاول الاعتداء عليه.
ليس مبالغة إذن القول إن الأرض العربية فتحت فاها لأعدائها ومكنتهم ليس من ابتلاع لسانها العربي فحسب، وإنما لينقلوا إليها فيروسات الطائفية وجراثيم المذهبية، وليزرعوا فيها بذور الشقاق والتعصب والعنف والإرهاب، عبر مشارط ”الديمقراطية، والحرية” وحقن ”حقوق الإنسان، والدولة المدنية”. إن كل ما يجري من تدمير وتهجير وقتل ممنهج بحق الدول العربية المستهدفة، سواء بالأصالة أو الوكالة، إنما هو يجري باسم المستعمرة الكبرى ”إسرائيل” وأمنها وبقائها؛ ولذلك في زمن تكاثر فيه الرجعيون والعملاء والخونة والإرهابيون والتكفيريون الخادمون لـ ”إسرائيل” وأمنها وبقائها، لا غرابة في أن يدنس المسجد الأقصى ويقسم زمانيًّا ومكانيًّا في مرحلته الأولى تمهيداً لتدميره في مرحلته اللاحقة ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية.
لن نقف عند ما يجري من حرب تدميرية إلغائية تشنّها أشد الأنظمة القبلية إسفافاً في الانحطاط، والغلوّ في التبعية الاستعمارية، وأشدها انغماساً في اختزان الأحقاد، ضد مراكز التحضّر الكبرى في كل من مصر واليمن والعراق وسورية، لأنني أفترض أن ما يجري الآن أوضح من أي محاولة للشرح والتفسير، بوصفه يبهر العيون من شدة الوضوح والسطوع. فالأجدى أن نقف عند تأصّل روح القتل الجماعي، والتدمير الشامل في أذهان شرائح، وفئات اجتماعية شتى، عاشت منذ مئات السنوات على الأرض السورية التي عدّها العرب على مر التاريخ بوّابتهم الفضلى، وربما الوحيدة، إلى الحضارة والرقي، بإطلاق دلالتي الحضارة والرقي على حد سواء.
وإذا كان الاستعمار القديم يقوم على استخدام القوة الغاشمة وتغيير الثقافات وسلخ الهويات وبذر بذور الفتن والخلافات على قاعدة ”فرق تسد”، فإن الاستعمار الجديد لا يختلف عنه إلا بتزويق وجهه القبيح بشعارات تم تعريتها من جميع مضامينها ومبادئها ومعانيها، ومن كثرة ترديد اسطوانتها المشروخة أخذت الآذان تشكو الصمم، فما عاد هناك حيز لسماعها مطلقاً بعد أن أثبتت الوقائع والأحداث زيفها وكذبها، فـ (الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وحماية المدنيين) لم تكن سوى مطارق يفتت بها تماسك المجتمعات العربية والإسلامية في سبيل تأمين المصالح الاستعمارية وبقاء الكيان الصهيوني.
والمؤلم حقاً أن دول الاستعمار القديم ـ الجديد كانت على الدوم الأقدر على إيجاد الأدوات من الداخل لتحقيق مآربها، وحين تصل إلى مبتغاها عن طريق أدواتها تعمل على حرقها والتخلص منها، والوقائع والأحداث أيضاً تؤكد ذلك. فالمسافة اليوم خطرة ووعرة، تلك الواقعة ما بين ميدان الجريمة الراهن والأهداف المنوطة بالمشروع الاستعماري الكبير وهي مساحة مشوشة ومفعمة بالتناقضات، وقد تدفقت إليها تداخلات مركبة صار الأبيض بموجبها أسود، وتحول القتل وسفك الدم الحرام فيها إلى جهاد وأصبح العدو الغربي الصهيوني في مساراتها صديقاً وشقيقاً وحليفاً، واتخذ المتخلف فيها موقع التوجيه والقيادة وكأنما هو يسوس ويسوق قطيعاً من الإبل أو الغنم.
هي المسافة العقدة حقاً وحقيقة، وما دامت بلا قواعد فكرية وبدون محددات أخلاقية فهي تصلح كما هو الحال لأمرين متلازمين للكذب من جهة وللجريمة المنظمة من جهة أخرى وفي تفرعات هذين الأمرين تقف بصورة واقعية المواقف القادمة من الموت والذاهبة إلى الموت.
وما ضرّ هذه القوى المعادية القابعة وراء المحيطات أن تمتد مخالبها وأنيابها عبر العصابات المسلحة وجوقات الترويج الفكري والإعلامي لتيار الظلم والظلام، ومادام الأصيل في حجره في الغرب الأميركي والأوروبي لا يدفع دولاراً واحداً ولا يضحي بعنصر واحد من عساكره، فالمسألة عندها ليست مفهومة فحسب بل هي مرغوبة ومطلوبة وهي قادرة بما تمتلك من استطالات وخداع على أن تغطي تلك المسافة الهائلة ما بين الواقع المشؤوم والهدف المزعوم، ولا حاجة لأحد عندهم أن تهدأ الخواطر أو أن تستريح المدافع والبنادق، فالوقود من البشر والسلاح والمال والكرامة هو هنا في الداخل العربي ولابد من دفعه قسراً إلى الدول التي لا تأتمر بأوامر الصهيونية، وبتكثيف دقيق وشديد نقول إنها المعركة الحاسمة بين الحق والباطل.
والمعركة الحاسمة بين الوجود والفناء والموجات تداهم الميدان بأنواع من التحريض ومن الإغراء الهمجي الذي لا يتوقف ولا ينضب والذي تستثمر في تغذيته موارد غزيرة أيضاً لا تتوقف ولا تنضب ومنها المال ومنها البشر ومنها الخطاب الديني الإسلامي الذي اعتمد أن يفرغ الإسلام العادل من مضمونه ويطلقه إدعاءات مزيفة في أكبر معركة لتشويه الحقائق وافتعالات الصراعات المجانية حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير البيت على ساكنه أو إلى وضع الإنسان في مواجهة أخيه الإنسان يشوهه ثم يرديه قتيلاً ثم يقول ها أنا قادم من الحرية إلى الحوريات العين في الجنة الموعودة.
إنها أكبر معركة في التاريخ البشري المعاصر تشهد هذا الأفق من التزوير وهذا المدى من سفك الدم الحرام وهنا نلتقط ميزتين لهذا الصراع يطاردان في كل حين البشر والحجر والشجر والأثر، حتى لكأن العلاقة ما بين الإنسان والحياة صارت مجرد احتمالات محدودة فلا مكان للأمان ولا ضمانة للعيش البسيط، إنهم في المحصلة يريدون خلق إنسان ميت سلفاً أو في طريقه إلى الموت ويحاولون في ذلك أن يطلقوا قناعات بأن هذه الأوطان المقاومة والوطنية، لا تصلح للحياة ولا للحضارة ولا للاستقرار…
وعلى المواطن المنتمي إليها أن يختار ما بين موت قابع للتو وراء الباب أو موت آخر بطريقة الرحيل عن الوطن كله واستلام وجبات المهانة والذل بحجة أن الحياة مع الذل هي أفضل من الموت مع الكرامة ونعود للميزتين اللتين بُني فيهما الصراع الدائر ومنهما اشتق هذا الخيار الهجين الذي يريدون له أن يُغلق بل ويستولي على فكر الإنسان وعقله ووجوده وإرثه الحضاري ليتحول بعد ذلك إلى إنسان فرد لا يجيد سوى الهزيمة وإلى إنسان مجرد لا يجيد سوى التدافع والاقتتال والاستعانة بالشيطان إذا كان الشيطان يساعد في تدمير الحياة.
والميزة الأولى ههنا لهذا الصراع هي متمثلة بكون الصراع ذاته نقيض العقل وعدو المصلحة وخصم الحقيقة، لذا لابد أن يتكثف هذا الصراع في الهامش الضيق وفي الحيز الذي امتلأ بالسموم والأحقاد، لابد أن يكتسب الصراع كما يخططون المضمون الغرائزي والنزعة الثأرية والتهام الأوهام والنظر إلى الآخر، إلى الإنسان شريك المبدأ ورفيق الدرب وذاكرة الحياة الطيبة والخيرة إلى عدو ملحدٍ هو سبب كل المشكلات على الأرض ولابد من تدميره بلا رحمة ولابد من محاسبته على عمره الذي مضى وعلى سلوك آبائه وأجداده.
إنها الميزة الثأرية الانتقامية التي تتخذ من الجهل والتعصب مرصداً ومنبعاً ودافعاً، وهنا نحن نلمس بل ونكتوي بنار هذه النزعة ولا أحد يسأل لماذا القتل على هذا النحو لماذا الإبادة، لماذا التفجير، لماذا القتل العشوائي لماذا تعطيل المصالح العامة بعد تدميرها ولا يصلح لتسديد الإجابات عن كل هذه الأسئلة سوى عمى البصر والبصيرة وطوفان الجهل والعصبية وتحميل ذلك كله لذات منخورة مفرغة من القيم خارجة عن الذمم تسمع وتطيع تتلقى الأمر وتنفذه من أعداء الله والإنسان بلا تردد بل بشعور صارخ من السادية المفعمة بالدم والأشلاء ومتعة احتراق الوجود.
لا أظن أن لدى أيٍّ من أولئك ”الذين ينصبون أنفسهم قيمين بالسوط، والبندقية، وسيف الاتهام، واستباحية سياسة ووسائل إعلام… لا أظن أن لدى أيٍّ منهم نوراً، يكفي لإضاءة قلبه وعقله وروحه، بحيث يرى أن للآخر، الشريك في الوجود والمصير، مثل ما له من رأي وقرار ودور، في شراكة الوجود والمصير… بل أرى كثيرين يغرقون في غياهب ظلامية التطرف، والتعصب، والاستعلاء، والادعاء، والانغلاق، والجهل المفضي إلى عصْمَويَّة فتاكة، ترى نفسها الناجي والمُنقذ معاً… وفي تجارب ومواقع كثيرة ثبت أنهم ”الضلال والخيبة والظلام”، ولكن أحداً لا يعترف بشيء من ذلك، حتى وهو يهوي بنفسه وبغيره إلى قعر الهاوية… فهناك في قعر الهاوية، لديه فصل من ”نضال؟! ”
ويسألون بعد ذلك هل يمكن أن تأتي الكميات البشرية التي انتمت للتدمير والقتل إلى كلمة سواء مع طرف آخر أو مع موقع في العالم لا يزال حي الضمير وقلبه ينبض بأصول الحياة التي أوجد الله الإنسان من أجلها وأوجدها من أجل الإنسان، فلا هدنة ولا مهادنة يخطر على بال هؤلاء المجرمين وكيف يخطر ذلك ببالهم ما داموا يقبضون الثمن ويتحركون بدوافع الغريزة وتحت مظلة الجهل والحقد الدامس.
وأما الميزة الثانية في الصراع المحتدم بين إرادتي الوجود والعدم فإنها تقع في منحى واحد هو أن تستمر حالة الاقتتال وأن يستعر أوار الصراع وأن يُصب الزيت على النار فالبشر والحجارة وقود لا ينتهي لنهمة هذا الصراع المخطط في الخارج والمنفذ بحذافيره الزرق في الداخل العربي. وحينما يكون الاقتتال هو مادة الحياة فينا ولنا ونكتب قصتنا الغرائبية بدم الأطفال والنساء والشيوخ يكون ذلك هو الهدف الاستعماري بحد ذاته، وهو وسيلة التدمير والإنهاك لأنه المتعة الأهم للمجرمين وشذاذ الآفاق والمنحرفين وأصحاب السوابق ومن في نفوسهم مرض والذين لم تبقَ سوى أن يغلفهم المستعمر بإدعاءات الجهاد والديمقراطية ورفع راية الله المزعومة.
ورغم وضوح زوايا الحقيقة حول الدور الغربي وامتطائه أنظمةً وجماعاتٍ وأحزابًا، وتقنعه بأقنعة الكذب والنفاق، فإن هناك من لا يزال مصابًا بالعدوى ويرفض أخذ الأمصال والتخلص من الداء، بل إنه يرى في هذه الأدواء العضال سببًا في نيله الخاتمة التي يتوهم أنه سينالها بسلوكه مسالك الإرهاب والعنف التي يزينها له شياطين الإنس على أنها ”جهاد” ينقله إلى مصاف الأنبياء والصديقين. وفق هذا التقدير، فإن هذا النجاح لمعسكر التآمر والتخريب بقيادة القوى الاستعمارية والامبريالية في بعثرة دول المنطقة وتشتيت شعوبها وتقسيمها إلى طوائف ومذاهب متصارعة متواجهة، دفع المنطقة إلى حفلة جنون كاملة يرقص المحتفلون فيها على أنهار الدماء البريئة المسفوكة عدواناً وظلماً وعلى جثث الأبرياء، ويتاجرون في الموت والقتل، ويطلقون صيحاتهم وتغريداتهم فرحاً وطرباً ”دعهم يتقاتلون، يتناحرون، وما علينا سوى التلذذ بمشاهد الذبح ومسيل الدماء”.
إن المستعمرين الجدد لم ينفكوا عن تقديم الدليل تلو الدليل على حقيقة نهجهم الاستعماري، إلا أن من المؤسف أنه لا يزال ثمة من يصر على الارتماء في عباءتهم، ويرفض الاتعاظ والاستيعاب… بل هناك من بين ظهرانينا من لا يزال يعمل على تقديم العون وأسباب البقاء، سواء لكيان الاحتلال الصهيوني أو للقوى الغربية الامبريالية الاستعمارية من خلال الخطب والفتاوى والدعوة إلى ”النفرة” و”الجهاد” في أماكن يمثل تدميرها وتقسيمها موضع اهتمام وهدفاً استراتيجياً… وبدل أن تدعو الفتاوى والخطب إلى الجهاد في فلسطين ونصرة الشعب الفلسطيني المسلم المظلوم ورفع الظلم، راحت تحرض على الفتنة الطائفية والمذهبية والعنف ضد المسلمين في سوريا وغيرها، فهل سيسمح ذوو العقول المستنيرة وذوو الحكمة من أبناء هذه الأمة والغيورين على دينهم وعروبتهم بأن تستقر هذه الفتنة المذهبية في جسد أمتهم لتنهش فيه وتقتل وتدمر ذاتها بسلاح الخلطة الطائفية الغربية؟
لهذا فإن دور الشعب العربي وفي هذه المرحلة بالذات، هو دور أساسي ومسؤوليته مسؤولية رئيسية، ذلك أن شعبنا يناضل في أهم مناطق العالم وأكثرها مساساً بمصالح الاستعمار، لذلك فإن مسؤولية الجماهير العربية بالذات وقبل غيرها، تتحدد بوضوح، فالذي لا يمكن إنكاره إن للاستعمار أصابع وأرجلٍ تتحرك بملء الحرية بل وتحكم في أجزاء كبيرة من وطننا العربي، وما تمثله هذه القوى من مخاطر على مستقبل الأمة العربية ليس بخاف على وعي الجماهير العربية وهذا ما يجعل الجماهير أمام مسؤولياتها لأن الخطر أكبر من أن تغض الطرف عنه، وبالتالي فإن مبادرتها لاستلامها زمام أمورها بأيديها هي المهام التي لا يمكن الإبطاء في تحقيقها.
وأكبر المسؤوليات وأهمها هي مسؤولية القوى القومية والتقدمية العربية التي تقع على عاتقها مهمة قيادة الجماهير، قيادة تحقق للأمة العربية أهدافها وتحقق النصر الذي سيجدد مستقبل هذه الأمة. إن القوى القومية والتقدمية لن تستطيع القيام بهذا الدور القيادي ما لم توحد صفوفها وتزيد من تلاحمها للوقوف كتلة متراصة ضد كل مطامع العدوانية التي تتربص بأمتنا ووطننا، كذلك فإنه