مواعظ قرآنية -جنّة الخُلد
9 ديسمبر,2016
القرآن الكريم
1,605 زيارة
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾.1
1- سورة النحل، الآية: 31.
إذا أردنا أن نتكلّم عن الجنّة لا بُدَّ أن يكون الكلام على صعيدين:
الأوّل: الكلام عن ضوابط وقواعد عامّة ثابتة ترتبط بمعنى السعادة الحقيقية.
الثاني: الكلام عن أوصاف تفصيلية لنِعَم أهل الجنّة الّتي ترجع إلى هذه الكليّات الّتي يُقتصر طبعاً فيها على النقل الّذي ورد في الكتاب العزيز وكلام الأنبياء النورانيّ وعلى رأسهم خاتمهم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الأبرار عليهم السلام.
ولنتكلّم الآن في المبحث الأوّل، ونفرد للبحث الثاني كلاماً مستقلّاً فيما سيأتي إن شاء الله.
مواعظ قرآنية -بيان معنى السعادة الحقيقية
– لا بُدَّ أوّلاً من ذكر مقدّمة مهمّة فطريّة، وهي من الحقائق الّتي ينبغي لكلِّ مؤمن أن يُدركها مع أنّه يستشعرها ويُصدّقها بمجرد تصوّرها، وهي:
إنّ كلّ إنسان يبحث في قرارة نفسه عن السعادة الحقيقية، ولكنّه قد يخطئها فيتوهّم بادئ الأمر أنّها في المحسوسات، وذلك لأنّه يبدأ بالإحساس باللذّة بوسيلة المحسوسات، ولكن بعد أن يُدرك ويقوم بسير باطنيّ عقليّ في طريق طلبه للحقيقة فإنّه سيشعر بأنّ اللذّات المحسوسة ليست هي السعادة الحقيقية بل هي لذّات عابرة منقطعة وربّما تركت بعد حصولها اكتئاباً وإحباطاً في نفس الشخص، ويذعن بأنّ السعادة الحقيقية تنبع من النفس ولا بُدَّ لها من مقوّمات يجمعها: الكمال المطلق وعدم النقصان في أيّ حاجة، والدوام من غير انقطاع ولا فقدان، والطمأنينة والأمن وعدم الخوف من أيّ شيء بما فيه خوف التصرُّم للنعم والانقطاع في زمن ما.
وإذا نظرت إلى الدنيا عرفت أنّ هذه المقوّمات للسعادة الحقيقية لا تتحقّق فيها، وبما أنّ الإنسان يطلبها فطريّاً فلا بُدَّ أن تكون “أي السعادة الحقيقية” متحقِّقة في صقعٍ آخر وعالم مختلف عن عالمنا الّذي نعيش فيه وهو الجنّة في الدار الآخرة.
فاللذّات في الجنّة تختلف عن لذّات الدنيا من حيثيات متعدِّدة، إذا التفتنا إليها وضممنا بعضها إلى بعض سيتولّد عندنا نعيم الجنّة الّذي لا يُمكن أن يكون في الدنيا لأنّه مخالف لمقتضى خلقتها ومدى قابليّتها له، حيث إنّها إذا اشتملت عليها انقلبت من حياة دنيوية إلى سنخٍ آخر من الحياة، وهو عكس الفرض.
فمنغِّصات الدنيا ترجع إلى فقدان الكمال في الأشياء:
فالجسد إذا فَقَدَ صحّته وكماله صار مريضاً.
والإنسان إذا افتقد ما يحتاجه في شؤونه كان فقيراً.
وإذا افتقد العلم كان جاهلاً.
وإذا افتقد نعمة “من ولدٍ أو مقام أو أيّ كمال وجوديّ” صار محبطاً متحسّراً حزيناً كئيباً.
وإذا كان في النعمة خاف فقدانها و زوالها، وخوف الفقدان بنفسه هو ألم يُباين السعادة.
وإذا نظر إلى نعمة الحياة وجد عمره فيها متصرّماً معدوداً منتقصاً يوماً بعد يومٍ وساعةً بعد ساعة.
فعلى افتراض أنّ الأمور اتّسقت له كلّها وهو فرض شبه محال فإنّ فكرة الموت والفناء ومفارقة النعيم الدنيويّ عندما تراوده تسلبه رقاده وتنغّص عليه معيشته.
فإذا أردّت أن تتصوّر الجنّة، إذاً فعليك أن تتصوّر حياة لا نقص فيها، ولا ألم، ولا خوف من الفقدان، ولا موت، ولا مرض، ولا فقر، ولا خوف على النفس من عدوٍّ أو خصمٍ، ولا حزن، ولا انقطاع، ولا كلل، ولا ملل، بل خلود في النعيم واللذّة الّتي لا
مقايسة بينها وبين لذّات الدنيا، بلا انقطاع، ولا اضمحلال، ولا نوع من أنواع النقص بأيّ نحو من الأنحاء، بل يتجدّد بحسب طلب الفرد وما يُريد ويشتهي، وزيادة دائمة “لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد”.
وهذا بخلاف ما نجده في الدنيا: فإنّ الشخص فيها لا يجمع كلّ ما يُريد من كمالات، فهذا الفقدان يُحدث له الألم والبؤس والشقاء وفقدان السكن والاطمئنان.
والكمالات الّتي يستجمعها هي:
إمّا مشوبة بالمنغِّصات.
وإمّا في حدِّ ذاتها تتضمّن تقبُّل الاكتمال أكثر، فيكون النظر إلى الأرقى فيها تقليلاً من لذّتها.
وإن كانت مكتملة فإنّه يبقى يساوره قلق المحافظة عليها، والخوف من زوالها.
ولو فرض عدم وجود الخوف من زوالها، فإنّ الخوف من مفارقتها بالموت يكون هاجس المفكِّر العاقل..
وهذا ينطبق على المال.
وعلى الجاه والمقام.
وعلى نعمة الأولاد.
وعلى الصحة.
وعلى العمر.
بل على كلّ لذّة ونعمة…. بلا استثناء.
هذا غير فقدان الأمن على النفس من الكائدين والمنافرين والخصوم والأعداء…
فكيف يهنأ الإنسان بعد عيش هذه خواصّه وهذه صفاته، بالله عليك؟
بينما الحياة الهنيئة واللذّة الحقيقية غير المشوبة بأيّ ضرب من ضروب النقص، وخوف الزوال والانقطاع والفقدان، هي الحياة الحقيقية واللذّة الواقعية وهي لا تكون إلا في جنّة الله تعالى في الآخرة، يقول تعالى:﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ﴾َ2 ، والحيوان هي الحياة الحقيقية.
وأضف إلى ذلك أنّ كيفية وكمّية اللذّات في الجنان تختلف بما لا يُمكن إدراكه، عن الكمّ والكيف للذّات الدنيا، وهذا ما عبّر عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..”
2016-12-09