1- بيانُ ضرورة المعجزة وأهمّيتِها في هداية النَّاس إلى الله.
2- بيانُ أنَّ معجزة الإسلام الأساسية والكبرى هي القرآن الكريم.
3- بيانُ الأوجه المختلفة لإعجاز القرآن.
ضرورة المعجزة
الحكمة الإلهيّة تقتضي تزويد الإنسان بطريق الهداية إلى الله تعالى، غير طريق الحسّ والعقل لقصورهما وعدم قدرتهما بذاتهما على معرفة طريق الهداية إلى الله بكلِّ أبعاده وتفاصيله. فكانت الحاجة إلى طريق آخر غير الحسّ والعقل، وهذا الطريق هو طريق الوحي والنُّبوَّة، أي طريق الغيب: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾1.
وبما أنَّ أفراد النَّاس ليسوا جميعهم مؤهّلين لاستقبال الوحي، فلا بدَّ إذن من الوحي لبعضهم ورجوع الآخرين إليهم لمعرفة إرادة الربّ ومشيئته. وبما أنَّ الوحي ليس أمراً محسوساً للآخرين حتَّى يروه ويعرفوا أنَّ هذا الشخص الذي قد أوحي إليه أنَّه هو النبيّ، كان لا بد من وجود طريق نعرف من خلاله تمييز ذلك الشخص ولياقته لتلقّي الوحي الإلهيّ، ولا بدَّ أنْ تكون لديه علامةٌ على ذلك من قبل الله تعالى. أي لا بدَّ أنْ يكون فيه أثرٌ يدلُّ على ارتباطه بالله عز وجل. وهذه العلامة أو الطريق ليست سوى “المعجزة” التي يختصُّ بها النبيّ وحده، والتي تمكِّنُه من فعل أشياءَ يعجزُ سائر النَّاس عن فعلها والإتيان بمثلها.
والمعجزة, هي أمرٌ خلاف المجاري العاديّة والسنن الطبيعية والتي لا تحصل
1- سورة آل عمران، الآية: 44.
إلا بقدرة الحقّ عزّ وجل وإرادته، فتكون هذه المعجزة دليلاً على شدَّة ارتباط هذا الشخص بالله تعالى، وعلى نبوَّته. فالحقّ سبحانه وتعالى، يؤيّد أنبياءه بالمعجزات الباهرات التي تجعل المرءَ مشدوهاً إلى صاحبها والذي ما يلبث أنْ يعترف أنَّه لا يملك شيئاً من عند نفسه، وإنَّما هو مبعوث من الله الحقّ.
وبما أنَّ النَّاس ينجذبون إلى ما هو خارق للعادة، وبما أنّهم لم يقدروا على الإتيان بمثله، فإنّهم يعترفون بعجزهم أمام النبيّ الذي راح يتلو عليهم آيات الله ويلفتهم إلى المعجزة الكبرى التي هي سرّ العالم. فالمعجزة إذاً ظاهرة عامة في كلّ النبوّات، وتأييد لمدّعاهم السفارة من الله. وهي فعل يعجز الآخرون عن الإتيان بمثله، لذا أصبحت طريقاً لمعرفة النبيّ.
وللمعجزة علامتان أساسيتان:
الأولى: أنَّه لا يمكن أنْ يتغلّب عليها أيّ عاملٍ آخر أقوى منها.
الثاني: أنَّها غير قابلة للتَّعلّم والتَّعليم، وإنَّما هي موهبة إلهية يمنحها الله لمن يشاء من عباده.
معجزة القرآن
العقل الإنساني يحكم بضرورة المعجزة للأنبياء عليهم السلام فيما إذا توقّف عليها إتمام الحجّة على النَّاس وهدايتهم، والأنبياء عليهم السلام بشكل عام لا بدَّ أنْ يكونوا مؤيّدين بالإعجاز.
القرآن الكريم قد ذكر الكثير من معاجز الأنبياء والرسل كمعجزة “المائدة” و “الناقة” و”ولادة النبي عيسى عليه السلام” ومعاجز النبي “موسى عليه السلام” ومعاجز النبي “نوح عليه السلام” والنبي “إبراهيم عليه السلام” والكثير من المعاجز التي حصلت للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. والملاحظة المهمَّة في مجال المعجزات أنَّ جميعَ معجزات الأنبياء والرسل عليهم السلام باستثناء معجزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مقصورة على الحاضرين، حيث كانت تثبت عندهم بالمشاهدة ثمَّ يتمّ إثباتها للغائبين عن طريق النقل. فجميع
الرِّسالات السَّماوية السَّابقة على الإسلام كانت محدودةً في الزَّمان والمكان، والآيات القرآنيّة تشيرُ إلى ذلك بوضوح.
ولكن لمَّا كانت رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي الرِّسالة الخاتمة حيث إنَّه لا نبيّ بعده: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾2، وبما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعثْ لأمَّةٍ محدّدة في مكانٍ محدّد، وزمان معيَّن، أو زمان خاص، وإنّما أُرسل إلى النَّاس كافّةً كما تشيرُ الآيات القرآنيّة إلى شموليَّة دعوته صلى الله عليه وآله وسلم وعمومية نبوّته لجميع البشر: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾3، فلا بد أنْ تتبعه البشرية منذ ذلك الوقت إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، لذا كانت الحكمةُ الإلهيّةُ تقتضي تزويد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة خالدة لا تقتصر على زمان خاص، ولا على مكانٍ معيّنٍ.
فرسالةُ الإسلام أبديَّةٌ عالميةٌ، ولا بد أنْ تكونَ معجزته كذلك وقد تحقَّق ذلك في القرآن الكريم، وهو بنفسه يصرِّح بذلك حيث ينقل عن البعض قولهم إنَّه لو أردنا أنْ نأتيَ بمثله لفعلنا: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾4. ولكن القرآن تحدّاهم بصورٍ متعدّدة منها قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾5.
والصورة الأخرى هي أنَّه تحدّاهم أنْ يأتوا بعشر سور مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾6.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- سورة سبأ، الآية: 28.
4- سورة الأنفال، الآية: 31.
5- سورة الإسراء، الآية: 88.
6- سورة هود الآيتان: 13 ـ 14.
والصورة الثالثة هي أنَّه تحدّاهم أنْ يأتوا بسورة مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾7.
وآية أخرى تتحدّى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾8.
هكذا كان جوُّ المعارضة في القرآن، بحيث إنَّه لو فكَّر إنسانٌ فيه فسوف يقطع بأنَّ هذا الكتاب منزلٌ من الله تعالى، فهو حديث باللغة العربيَّة مكوّن من حروف وكلمات تستعمل في الحوار اليومي، إلا أنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يأتي بسورة مثله مكوّنة من سطر واحد، لذا كان القرآن الكريم معجزة الرسول الكبرى والخالدة.