الرئيسية / الاسلام والحياة / بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام

بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام

الدرس الحادي عشر: الإمام الباقر عليه السلام والإصلاح في الأمّة

 أهداف الدرس:
 

  • أن يتعرّف الطالب إلى منهج الإصلاح الذي اعتمده الإمام الباقر عليه السلام .
  • أن يعدّد أبرز محاور هذا الإصلاح.

 

تركّز عمل الإمام الباقر عليه السلام ونشاطه على إصلاح الواقع الفاسد والّذي كان يدور حول محورين أساسين:

 

1- محور الأمّة الإسلاميّة وهو محور النشاط العامّ.

 

2- محور أتباع أهل البيت عليهم السلام وهو محور النشاط الخاصّ.

 

المحور الأوّل: النشاط العامّ‏

 

1- الإصلاح الفكريّ والعقائديّ‏

 

بعد نشوء التيّارات السياسيّة والفكريّّة المنحرفة تطلّب الأمر إصلاحاً فكريّاً وعقائديّاً يتراوح بين ردّ الشبهات والأفكار المنحرفة من جهة، وبيان البديل الصالح والفكر السليم من جهةٍ أخرى، وتمّ ذلك بأساليب عديدة، منها:

 

أ- المواجهة العلنيّة للحركات المنحرفة: فقد واجه الإمام عليه السلام حركة الغلاة الّتي نشطت بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي، فكان يلعنهم أمام الناس، وحركة المرجئة1 الذين قال عليه السلام فيهم:

1- المرجئة: وهم القائلون: “قدّموا الإيمان وأخّروا العمل”، وأشاروا إلى الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظيّة والمعرفة القلبيّة، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذّبون، واقتحام الكبائر لا يضرّ.

 

 “اللّهم العن المرجئة فإنّهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة”2 ، وحركة المفوّضة والمجبّرة3. وكان عليه السلام يحذّر منهما بقوله: “إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً”4.

 

وجرت بينه عليه السلام وبين أرباب الأديان والمذاهب مناظرات متعدّدة.

 

ب- محاسبة الفقهاء المخالفين: فحاسب أمثال أبي حنيفة لقوله بالقياس، وفي ذلك يقول محمّد أبو زهرة:5 “تتبيّن إمامة الباقر عليه السلام للعلماء، بمحاسبتهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرؤوسيه ليحملهم على الجادّة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة”6.

 

ج- نشر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام .

 

د- الدعوة إلى أخذ العلم من مصادره النقيّة، حيث حذّر عليه السلام من الإفتاء بالرأي وقال عليه السلام لبعض من سأله: “شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا”7.

 

2- الإصلاح السياسيّ‏
استثمر الإمام عليه السلام بعض أجواء الانفراج السياسيّ النسبيّ لبناء وتوسعة القاعدة الشعبيّة، وتسليحها بالفكر السياسيّ السليم، وتجلّى دوره الإصلاحيّ في الممارسات التالية:

2- بحار الأنوار، م.س: 46/291.

3- المفوّضة: هم القائلون بتفويض الأمور إلى العباد، وإنّه ليس لله سبحانه أيّ صُنع في أفعالهم. – المجبّرة: وهم من يعتقدون أنّ الله تعالى أجبر الإنسان على أفعاله، وينسبون إليه عزّ وجلّ كلّ قبيح.

4- م.ن: 5/298.

5- من مشايخ الأزهر، أستاذ الشريعة بكليّة الحقوق في جامعة القاهرة، ت 1394هـ.

6- تاريخ المذاهب الإسلاميّة:361.

7- الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني: 1/399، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، قم، 1986م.

 

أ – الدعوة إلى تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لكونهما يحرّران الإنسان والمجتمع من جميع ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، يقول عليه السلام :

 

“إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، وفريضة عظيمة بها تُقام الفرائض وتأمن المذاهب… وتُردّ المظالم وتعمر الأرض، ويُنتصف بها من الأعداء”8.

 

ب- نشر المفاهيم السياسيّة السليمة: وجّه الإمام عليه السلام الأنظار إلى دور أهل البيت عليهم السلام في قيادة الأمّة نحو الرشاد فقال: “نحن ولاة أمر الله وخزائن علم الله، وورثة وحي الله، وحملة كتاب الله، وطاعتنا فريضة، وحبّنا إيمان، وبغضنا كفر، محبّنا في الجنّة، ومبغضنا في النار”9. وحذّر الأمّة من الابتعاد عن نهج أهل البيت عليهم السلام ، وحثّ على نصرتهم عليهم السلام ، وأكّد أنّ تولّي الإمام لمنصب الإمامة منحصر بالنصّ.

 

ج- الدعوة إلى مقاطعة الحكم القائم: فبالإضافة إلى كشف الإمام عليه السلام حقيقة الحكم الأمويّ، والجرائم الّتي ارتكبها بقوله: “… وكان عِظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن، فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي… ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين”10 ، فقد دع عليه السلام إلى مقاطعة الحكم الجائر ونهى عن إسناده، فقال ـ في معرض جوابه عن العمل معهم ـ: “ولا مدّة قلم، إنّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله”11.

8- تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، محمّد بن الحسن، المعروف بالطوسي: 6/18، دار الكتب الإسلامية، قم، ط4.

9- مناقب آل أبي طالب، م.س: 4/223.

10- شرح نهج البلاغة، م.س: 11/42 ـ 43.

11- الكافي، م.س: 5/107.

 

د- موقفه من الجهاد المسلّح: وقف الإمام عليه السلام موقف الحياد من الثورات الّتي قادها الخوارج، فلم يصدر عنه تأييد ولا معارضة. وفي عهده عليه السلام لم تنطلق أيّ ثورة علوّية لأنّه كان مشغولاً بتوسعة القاعدة الشعبيّة، لكي تنطلق فيما بعد لإكمال العدّة والعدد. وكان يوجّه الأنظار إلى ثورة أخيه زيد الّتي ستنطلق في المستقبل، ويحذّر من خذلانه، فيقول: “إنّ أخي زيد بن عليّ خارج فمقتول على الحقّ، فالويل لمن خذله والويل لمن حاربه، والويل لمن قاتله”12.

 

3- الإصلاح الاجتماعيّ والأخلاقيّ‏

بذل الإمام الباقر عليه السلام عناية خاصّة لإصلاح أخلاق أبناء المجتمع الإسلاميّ بدءاً بالمقرّبين منه، ثمّ في سائر الأوساط الاجتماعيّّة والمؤسسات الحكوميّة، وذلك عبر أساليب متعدّدة منها:

 

أ – توظيف السُنّة النبويّة لإيجاد التغيير:

 

لأنّها تتضمّن عناصر التغيير الأخلاقيّ والإصلاح الاجتماعيّ. ومن هنا أخذ الإمام عليه السلام يهتم بنشر الحديث الشريف محقّقاً بذلك هدفين مهمّين:

 

1- كسر طوق الحظر الّذي كان قد فرضه الحكّام على أبناء الأمّة لإبعادها عن مصدري عزّتها وكمالها وهما سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته الشريفة.

 

2- إيجاد عامل التغيير الأخلاقيّ معتمداً على تقديس الأمّة لنبيّها العظيم والتأسّي بأخلاقه. ومن أصول التغيير الأخلاقيّ الّذي اعتمده عليه السلام هو تغيير العناصر المؤثّرة في بناء المجتمع كما ورد في الحديث الشريف: “صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت أمّتي…

12- مقتل الحسين عليه السلام , الخوارزمي: 2/113.

 

الفقهاء والأمراء”13، ونشر الإمام عليه السلام المفاهيم الأخلاقيّّة فأكّد على العفّة والحياء، وحُسْنِ الخلق وإدخال السرور على المؤمنين، وصلة الرحم وغيرها من المفاهيم الّتي برزت في أحاديثه وكلماته عليه السلام .

 

ولم يكتفِ عليه السلام بنشر الأحاديث الشريفة والدعوة إلى تجسيد محتواها في الواقع، وإنّما قام بأداء دور القدوة في ذلك. فكان عليه السلام يعالج الواقع الفاسد معالجة عمليّة من خلال سيرته الحسنة.

 

ب – الدعوة إلى اكتساب مكارم الأخلاق:

 

كثّف الإمام عليه السلام دعوته إلى إصلاح النفوس واكتساب مكارم الأخلاق لتكون العلامة الفارقة لتعامل المسلمين فيما بينهم، فكان عليه السلام يدعو إلى إفشاء السلام ، وهو مظهر من مظاهر الإخاء والودّ والصفاء في العلاقات الاجتماعيّة، كما دع عليه السلام إلى تطهير اللسان فقال عليه السلام : “قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله يُبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش، السائل الملحف. ويحبّ الحييّ الحليم، العفيف المتعفّف”14. ودعا إلى الارتباط بأهل التقوى وتعميق أواصر العلاقات معهم. وأوضح عليه السلام حقوق المؤمن على المؤمن، وحذّر من ظلم الآخرين أو الإعانة على ظلمهم، ودع عليه السلام إلى مقابلة الإساءة والقطيعة بالإحسان والصلة.

 

وهكذا نلاحظ تنوّع أساليب الإمام عليه السلام لإيجاد التغيير الأخلاقيّ في عامّة طبقات المجتمع.

13- الخصال، محمّد بن عليّ بن بابويه المعروف بالصدوق: 1/260، تحقيق علي أكبر الغفاري، المكتبة الإسلامية، طهران، 1348هـ ش.

14- تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الحسن بن عليّ الحرّاني، تحقيق: علي أكبر الغفاري: 220، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1404 هـ ـ 1363 هـ. ش.

 

4- الإصلاح الاقتصاديّ‏

 

لم يكن الإمام الباقر عليه السلام على رأس سلطة حتّى يستطيع إصلاح الأوضاع الاقتصاديّّة إصلاحاً عمليّاً جذريّاً. ومن هنا اقتصر عليه السلام على نشر المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة المرتبطة بالحياة الاقتصاديّة، والنظام الاقتصاديّ الإسلاميّ. وهنا نلاحظ أنّ الإمام عليه السلام حدّد أوّلاً الأهداف المتوخّاة من التصرّف بالأموال، فهي وسيلة للتفرّغ إلى عبادة الله تعالى، فقال عليه السلام : “نِعْمَ العون الدنيا على طلب الآخرة”15.

 

وذكر عليه السلام مصاديق طلب الآخرة فقال: “من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس وتوسيعاً على أهله… لقي الله عزّ وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر”16.

 

وأكّد على حرمة بعض التصرّفات الماليّة كالتطفيف في المكيال.

 

وقدّم عليه السلام مهمّة سدّ احتياجات المسلمين على أهمّ العبادات المستحبّة مثل الحجّ تطوّعاً، فقال: “لئن أحجّ حجّة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة – حتّى انتهى إلى سبعين – ولئن أعول أهل بيت من المسلمين, أشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة حتّى انتهى إلى سبعين”17.

 

ثمّ إنّه عليه السلام دعا إلى التعالي على الحرص والطمع، ووجّه الأنظار إلى الآثار السلبية لهما، وحثّ على القناعة لأنّها إحدى مقدّمات السعادة الروحية، ودعا إلى الاقتصاد والاعتدال في مختلف الظروف، وحذّر من الاعتداء على أموال الآخرين.

15- الكافي، م.س: 5/73.

16- م.ن: 5/78.

17- م.ن: 4/2.

 

المحور الثاني: النشاط الخاصّ، أتباع أهل البيت عليهم السلام

 

وهو عمليّة بناء الجماعة الصالحة من أتباع أهل البيت عليهم السلام ، حيث قام الإمام الباقر عليه السلام بنشاط كبير لتربية أجيال صالحة وتوعيتهم على حقائق الرسالة. وهذا ما يكشف عن التخطيط البعيد المدى الّذي حرص الإمام عليه السلام على تحقيقه لبثّ الوعي المطلوب في الأمّة. وتمثّلت حصيلة هذه التربية في كوكبة من أصحاب الإمام عليه السلام وعلى رأسهم: زرارة بن أعين، وأبو بصير الأسديّ، والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم الطائفيّ، وبرير بن معاوية العجليّ… وهؤلاء الطليعة المتقدّمة من أصحابه تلتها طبقة ثانية من صحابته مثل: حمران بن أعين، وإخوته، ومحمّد بن مروان الكوفيّ، وإسماعيل بن الفضل وآخرون18. وتنوّعت توجّهات الجماعة الصالحة، فمنهم الفقهاء ومنهم قادة الثورات ومنهم المصلحون الّذين كانوا يجوبون الأمصار لتعميق منهج أهل البيت عليهم السلام في قلوب الناس.

 

أهمّ خصائص الجماعة الصالحة

 

إنّ الأهداف الكبرى للجماعة الصالحة الّتي بناها الإمام الباقر عليه السلام تتلخّص في حفظ الشريعة الإسلاميّة من التحريف، والمحافظة على المجتمع الإسلاميّ. وهذا يتطلّب توفّر مواصفات خاصّة وبمستوى عالٍ في الجماعة الّتي يُراد تحقيقها، ويمكن أن نجمل هذه الخصائص والمواصفات فيما يلي:

 

1- العقيدة الصحيحة والثقافة الإسلاميّة، فالعقيدة هي أساس أيّة حركة أصوليّة سليمة، وبمقدار قوّة العقيدة ووضوحها وانسجامها مع الركائز النظريّة للإنسان يكون النجاح والثبات والاستمرار والتطوّر مضموناً لأصحابها. ولهذا حرص أهل البيت عليهم السلام على بيان معالم العقيدة السليمة

18- مناقب آل أبي طالب، م.س: 229.

 

وإعطاء تفاصيلها إلى أتباعهم باستمرار، ونلمس ذلك في التراث الّذي حفظه لنا أتباعهم، وهو ثروة كبرى في هذا المضمار19.

 

2- الرجوع إلى أهل بيت الوحي عليهم السلام : في معرفة الدِّين وفهم تفاصيل الشريعة وحقائق الرسالة والولاء السياسيّ والفكريّ لهم. وقد تميّز أتباع أهل البيت بهذه الصفة فإنّهم لا يتعدّون نصوص وتراث أهل البيت عليهم السلام الغني كلّ الغنى في هذا الجانب, فإنّ أهمّ ما عكف عليه أهل البيت عليهم السلام إلى جانب كلّ نشاطاتهم الاجتماعيّّة والفرديّة هو بيان ضرورة رجوع الأمّة إليهم لمعرفة الدين. وقد أعلنوا ذلك ضمن احتجاجهم على علماء سائر فرق المسلمين، وأمام أعين الخلفاء وطلّاب الحقيقة، يقول الإمام الباقر عليه السلام : “والله إنّا لخزّان الله في سمائه وأرضه، لا على ذهب ولا على فضّة إلّا على علمه”20.

 

وعنه عليه السلام قال: “إنّ العلم الّذي نزل مع آدم عليه السلام لم يُرفع، والعلم يُتوارث، وكان عليّ عليه السلام عالم هذه الأمّة وإنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلّا خلفه من أهله من علم مثل علمه أو ما شاء الله”21.

 

3- الاتّصاف بدرجةٍ عُليا من الكمالات النفسيّة والعمليّة: اهتمّ أهل البيت عليهم السلام بتربية أتباعهم تربية تجعلهم في مستوى رفيع من الكمالات بحيث تجعلهم في مستوى القدوة الحسنة للآخرين، حتّى عُرف شيعة أهل البيت بهذه الميزة على مدى القرون والأجيال…

 

قال الإمام الباقر عليه السلام لجابر بعد بيانه لكيفية تقييم الإنسان الشيعيّ لنفسه

19- ونستطيع أن نجد بغيتنا فيما جاء في القسم العقائديّ من أصول الكافي وكتاب الاحتجاج والقسم العقائديّ من موسوعة بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي قدس سره.

20- الكافي، م.س: 1/228.

21- م.ن: 1/222.

 

بشكل دائم، ذاكراً خصائص ومميّزات هذا المسلم: “وما كانوا يُعرفون – يا جابر – إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء”22.

 

منهج الإمام عليه السلام في التربية والتزكية لشيعته‏

 

اعتبر الإمام الباقر عليه السلام أنّ الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، وكلّ جهاد سواه يُعدّ إلى جانبه جهاداً أصغر منه لأنّه جهاد على مدى العمر، وفي كلِّ زمان ومكان لا يكاد يفارق الإنسان حتّى يتسامى على كلّ الشهوات والنزوات. ومن هنا ركّز الإمام عليه السلام على أهمّ المقوّمات الّتي تدفع النفس للتزكية ومنها:

 

1- استشعار الرقابة الإلهيّة: فلا تتمّ التزكية إلّا باستشعار الرقابة الإلهية في العقل والضمير والوجدان، والإحساس بأنّ الله تعالى محيط بالإنسان يُحصي عليه حركاته وسكناته. وفي موعظته عليه السلام لبعض شيعته: “ويلك… كلّما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه، فارتكبته كأنّك لست بعين الله أو كأنّ الله ليس لك بالمرصاد”23.

 

2- التوجّه إلى اليوم الآخر: وجّه الإمام عليه السلام الجماعة الصالحة إلى ذلك اليوم ليجعلوه نصب أعينهم وليكون حافزاً لهم لإصلاح النفس وتزكيتها. وممّا جاء في موعظته لجماعة منهم: “… يا طالب الجنّة ما أطول نومك وأكلَّ مطيّتك، وأوهى همّتك، فلله أنت من طالب ومطلوب…”24.

22- م.ن: 2/74.

23- تحف العقول، م.س: 212.

24- م.ن: 212 و213.

 

3- تحكيم العقل: فالله تعالى خلق الإنسان مزوّداً بعقل وشهوة، ومنحه سبل الهداية من خلال البيّنات والحقائق الثابتة. ولهذا ركّز الإمام عليه السلام على تحكيم العقل على جميع الرغبات والشهوات، وأنّه لا بدّ أن يكون للإنسان واعظ من نفسه ليقوم بتزكيتها، فقال عليه السلام : “من لم يجعل الله له من نفسه واعظاً، فإنّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً”25.

 

الإمام الباقر عليه السلام وبناء المؤسّسات الثقافيّة

 

كان للإمام الباقر عليه السلام دور كبير في تشييد وتوسيع المؤسّسات الثقافيّّة الإسلاميّة، الّتي تنهج نهج أهل البيت عليهم السلام في نشر العلم والمعرفة. وكان له عليه السلام دورٌ رئيس في بناء وتأسيس مدرسة المدينة، حيث ازدهرت في أيّامه وإلى آخر أيّام الإمام الصادق عليه السلام قبل أن تنتقل إلى الكوفة ومن بعدها إلى قمّ. وقد انتظمت الحلقات الدراسيّة، وكان بيته عليه السلام جامعةً يزدحم فيها طلّاب العلوم وحملة الحديث، ينهلون من معينه الّذي لا ينضب.

 

الإمام الباقر عليه السلام وإحياء الروح الثورية

 

كان لثورة الإمام الحسين عليه السلام دور كبير في إحياء الروح الثوريّة، وإلهاب الحماس في العقول والقلوب والإرادة، لمقاومة الظالمين. ولهذا أكّد الإمام الباقر عليه السلام على جعل الثورة حيّة تمنح الناس طاقة ثوريّة لخوض المواجهة في دقّتها وظرفها المناسب.

 

وتجسّد إحياؤه للروح الثورية في مظهرين:

 

1- إقامة الشعائر الحسينيّة: فكان عليه السلام يقوم بنفسه بإحياء الشعائر الحسينيّة من خلال إقامة مجالس العزاء الحسينيّ في منزله. وبهذا

25- م.ن: 214.

 

 الأسلوب العملي كان يحثّ شيعته وأتباعه على إقامة مجالس العزاء.وشجّع عليه السلام على ظاهرة البكاء لمصاب جدّه الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته الأحرار وذلك من أجل أن تتجذّر الرابطة العاطفية به عليه السلام . وحثّ على زيارة قبر الحسين عليه السلام بهدف تعميق الارتباط به فكراً ومنهجاً واستلهام روح الثورة منه، ومعاهدته على الاستمرار على نهجه.

 

2- إنشاد الشعر في الإمام الحسين عليه السلام : حيث كان عليه السلام يشجّع على قول الشعر في الإمام الحسين عليه السلام لما في ذلك من إبقاء لمظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام في الوجدان، وتخليد لذكرى مصاب أهل البيت عليهم السلام .

 

الإمام عليه السلام ونشر حقيقة الإمام المهديّّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 

إنّ الصراع بين الإسلام والجاهليّة، وبين الحقّ والباطل، لا ينتهي ما دام كلّ منهما موجوداً وله كيان وقيادة وأنصار. ويستمر الصراع إلى أن ينتصر الحقّ على الباطل في نهاية الشوط. ويمثّل ظهور الإمام المهديّّ عجل الله تعالى فرجه الشريف آخر حلقة من سلسلة الصراع حيث يختفي الباطل ولا يبقى له وجود وكيان مستقلّ.

 

وانتظار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف هو حركة إيجابيّة تتطلّب تعبئة الأفكار والطاقات للاشتراك في عمليّة الخلاص والإنقاذ.

 

وقد أكّد الأئمّة عليهم السلام على هذه الحقيقة ومنهم الإمام الباقر عليه السلام لكي تتعمّق في العقول والنفوس، قال عليه السلام : “إنّما نجومكم كنجوم السماء كلّما غاب نجم طلع نجم حتّى إذا أشرتم بأصابعكم، وملتم بحواجبكم غيَّب الله عنكم نجمكم، واستوت بنو عبد المطّلب فما يُعرف أيٌّ من أيّ فإذا طلع نجمكم، فاحمدوا ربّكم”26.

26- بحار الأنوار، م.س: 51/138.

 

وجعل قيام الإمام المهديّّ عجل الله تعالى فرجه الشريف من المحتوم حين قال: “من المحتوم الّذي حتمه الله قيام قائمنا”27. وكان عليه السلام يُهيّى‏ء الأذهان للتعبئة إلى ذلك اليوم ويقول: “إذا قام قائمنا وظهر مهديّنا كان الرجل أجرأ من ليث، وأمضى من سنان” 28.

 

وبهذا كان الإمام عليه السلام يُحيي الأمل بانتصار الحقّ وأفول الباطل. ويكون هذا الأمل عاملاً للانتظار الإيجابيّ البنّاء، انتظاراً يتضمّن الاستعداد الدائم والمستمرّ للنهوض تحت راية الحقّ.

 

خلاصة الدرس

 

انصبّ دور الإمام الباقر عليه السلام على إصلاح الواقع الفاسد والّذي كان يدور حول محورين أساسين:

 

1- محور الأمّة الإسلاميّة، وهو محور النشاط العامّ.

 

2- محور أتباع أهل البيت عليهم السلام ، وهو محور النشاط الخاصّ.

 

في المحور الأوّل: عمل الإمام عليه السلام على مجموعة من الإصلاحات الفكريّّة والعقائديّة حيث واجه الحركات المنحرفة، وحاسب فقهاء السلطة ونشر أحاديث النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، والإصلاح السياسيّ، حيث دعا إلى تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر المفاهيم السياسيّة السليمة، والإصلاح الاجتماعيّ والأخلاقيّ، حيث وظّف السنّة النبويّة لإيجاد التغيير، وإلى اكتساب مكارم الأخلاق، والإصلاح الاقتصاديّ.

27- م.ن: 51/139.

28- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني: 3/184، منشورات دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1409 هـ.

 

 

 

في المحور الثاني: عمل الإمام عليه السلام على بناء الجماعة الصالحة، وجعل لها مميّزات حيث أسّس لهم العقيدة والثقافة الإسلاميّة، وجعل مرجعيّتها أهل بيت الوحي.

 

– كان للإمام عليه السلام منهج مميّز في التربية والتزكية لشيعته، من خلال إشعارهم بالرقابة الإلهيّة وتوجيههم إلى اليوم الآخر وتحكيم العقل.

 

– كان للإمام الباقر عليه السلام دور كبير في تأسيس الثقافة العلميّّة ونشر المعرفة.

 

– أحيا الإمام عليه السلام الروح الثورية في الأمّة، وأقام الشعائر الحسينيّة، ونشر حقيقة الإمام المهديّّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

 

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...