إنّها الوثيقة الأخلاقيّة الجامعة، والتي حملها إلينا التراث من زمن الإمام الكاظم عليه السلام، وهي الوصيّة التي أوصى بها لصاحبه هشام بن الحكم. لقد تضمنت الوصيّة هذه كماً هائلاً من المضامين الثقافيّة المتنوّعة، والتي انطلقت من العقل، ودوره وتأثيره في بناء الأخلاق الإنسانيّة، وما يكمل به المرء حين يتّصف بالحسن منها.
خرج الرشيد إلى الحج فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلولاً المجنون على قصبة وخلفه الصبيان وهو يعدو، فقال: من هذا، قالو: بهلول المجنون، قال: كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع، فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته، فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال: كنت إليك بالأشواق، قال: لكنّي لم أشتق إليك، قال: عظني يا بهلول، قال: وبم أعظك؟ هذه قصورهم وهذه قبورهم، قال: زدني فقد أحسنت، قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله وواسى في ماله كُتب في ديوان الأبرار، فظن الرشيد أنه يريد شيئاً فقال: قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال: لا يا أمير المؤمنين لا يُقضى الدين بدين أردد الحق على أهله واقض دين نفسك من نفسك، قال: فإنا قد أمرنا أن يجري عليك، فقال: يا أمير المؤمنين أترى الله يعطيك وينساني؟ ثمّ ولّى هارباً.
16- الأعراف 26.
17- الزمر:18.
يا هشام:
“ثمّ وعظ أهل العقل، ورغبهم في الآخرة، فقال: “وما الْحياةُ الدُّنْيا إِلاّ لعِبٌ ولهْوٌ وللدّارُ الآخِرةُ خيْرٌ لِّلّذِين يتّقُون أفلا تعْقِلُون”1، وقال: “وما أُوتِيتُم مِّن شيْءٍ فمتاعُ الْحياةِ الدُّنْيا وزِينتُها وما عِند الله خيْرٌ وأبْقى أفلا تعْقِلُون”2، يا هشام، ثم خوّف الذين لا يعقلون عذابه فقال: “ثُمّ دمّرْنا الْآخرِين * وإِنّكُمْ لتمُرُّون عليْهِم مُّصْبِحِين * وبِاللّيْلِ أفلا تعْقِلُون”3، يا هشام، ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون فقال: “وإِذا قِيل لهُمُ اتّبِعُوا ما أنزل اللهُ قالُواْ بلْ نتّبِعُ ما ألْفيْنا عليْهِ آباءنا أولوْ كان آباؤُهُمْ لا يعْقِلُون شيْئاً ولا يهْتدُون”4 وقال تعالى: “إِنّ شرّ الدّوابِّ عِند اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الّذِين لا يعْقِلُون”5، وقال: “ولئِن سألْتهُم مّنْ خلق السّماواتِ والْأرْض ليقُولُنّ اللهُ قُلِ الْحمْدُ لِلهِ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون”6، ثمّ ذمّ الكثرة فقال: “وإِن تُطِعْ أكْثر من فِي الأرْضِ يُضِلُّوك عن سبِيلِ اللهِ…”7، وقال: أكثر الناس لا يعقلون وأكثرهم لا يشعرون.
تمهيد
بعد أن أشار المام عليه السلام لدور العقل ومركزيته لسائر الفضائل ولتحقيق المعنى
الأكمل للعبودية لله تعالى، شرع الإمام عليه السلام في الحديث عن التخويف الإلهيّ للإنسان الذي ينحرف عن الصراط المستقيم وشرع الله الحنيف، فاستشهد بالعديد من الآيات الشريفة الدالة على لزوم الخوف من الله تعالى، وأنّ على العاقل أن يحذر ويخاف ممّا أعد الله تعالى للمخالفين لحكمه وأمره، وختمت الفقرة باستشهاد الإمام بآيات الكتاب على ذمّ الكثرة وصفاتهم التي وردت في القرآن. وسنتحدث في هذا الدرس عن هذين الأمرين بالتفصيل إن شاء الله تعالى.