من المفاهيم التي لها دور فعّال في حركة الرسالة وقد ركّزت عليها الأديان التوحيديّة عامّة والإسلام خاصّة؛ مفهوم الوحي، فما هي حقيقة الوحي، وما هو المراد منه؟
الجواب: من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في القرآن الكريم: مصطلح (الوحي)، وقبل أن نسلّط الأضواء على هذا المفهوم من زاوية الرؤية القرآنيّة وما هي المجالات والاُطر التي استعمل فيها القرآن هذا المصطلح، نرى من اللازم أن نسلّط الأضواء على المعنى اللّغوي لهذا المصطلح:
قال ابن فارس: (الوحي أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء). [مقاييس اللّغة:6/93، مادّة (وحى)].
وقال الراغب: (أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل (أمر وحي)، وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض). [مفردات الراغب:515، مادة (وحى)].
وقال ابن منظور: (الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك) [لسان العرب:15/ 379].
وبالأخذ بعين الاعتبار، الكلمات التي نقلناها من كبار أصحاب الاختصاص من اللّغويّين العرب، يمكن القول حينئذٍ: إنّ الوحي هو ذلك الإلقاء إلى الغير الذي يكمن فيه عنصران: الأوّل: الخفاء، والثاني: السرعة. وإذا ما اُطلق على الارتباط بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وبين الله سبحانه وعلى عمليّة تلقّي الأحكام والتعاليم الإلهيّة مصطلح (الوحي)، فإنّ هذا الإطلاق في الواقع ينطلق من هذه الحيثيّة، وذلك باعتبار أنّ ذلك نوع من التعليم غير الاعتيادي الخفيّ المقترن بالسرعة.
والذي يظهر من الشيخ المفيد (قدّس سرّه) أنّ المقوّم لإطلاق الوحي والعنصر اللازم له هو (الخفاء في التعليم)؛ حيث ذهب إلى أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريق من الطرق. [انظر: تصحيح الاعتقاد:120، فصل في كيفية نزول الوحي].
والحال أنّ عنصر السرعة أيضاً يُعدّ من مقوّمات الوحي بالإضافة إلى الخفاء.
بعد أن تعرّفنا على المعنى اللّغوي لمصطلح (الوحي)، ننتقل إلى الحديث عن تحليل وتحقيق المراد من الوحي في القرآن الكريم، وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من المعاني التي استخدم فيها هذا المصطلح، ومنها:
الف: الإدراك الغريزي
لقد كشفت العلوم الحديثة كعلم الأحياء ـ وخاصّة في مجال دراسة الحيوانات التي تقوم على أساس غريزي ـ أنّ هذه الحيوانات تقوم بفعّاليّات وحركات وأعمال حيّرت العقول وأدهشت الفكر الإنساني، فعلى سبيل المثال: زنابير النحل وما تقوم به من الأعمال المدهشة التي تتّسم بالدقّة والإتقان والتنظيم وتوزيع المهامّ والأدوار، وكذلك العنكبوت وما ينسجه من البيوت رغم وصفها في القرآن الكريم بأنّها أوهن البيوت، فإنّها مع ذلك تتّصف بالدقّة والإتقان، فإنّ كلّ هذه الأعمال نابعة من عامل داخلي ونداء غريزي.
وبعبارة اُخرى: أنّها تقوم بذلك بصورة اُتوماتيكيّة ومن دون الحاجة إلى تعليم خارجي، وأنّها تطوي مسيرة حياتها اعتماداً على العنصر الأوّل وهو العنصر الداخلي الغريزي.
ولا ريب أنّ هذه الأعمال ـ التي تقوم بها تلك الحيوانات والتي يعجز الإنسان عن القيام بها ـ لا يمكن أن تصدر من دون علّة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا يمكن القول إنّ هذه الحيوانات إنّما تقوم بهذه الأعمال بعد إعمال فكر وطيّ سلسلة من الحسابات العقليّة وإجالة الفكر بين حسابات الربح والخسارة.
إذاً، لابدّ من الإذعان أنّ ذلك لا يكون إلاّ وليد نوع من التعليم الخفي والرمزي الذي اُلقي إلى تلك الحيوانات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه: {وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللاً…} [سورة النحل:68ـ 69]. وعلى هذا الأساس تكون الأعمال المدهشة للنحل؛ كالتنظيم الهندسي للخلية وتوزيع الأدوار والحراسة ومنع الزنابير المريضة من دخول الخلية والتجوّل بين الأزهار ومصّ رحيقها، وتحويلها إلى شهد لذيذ و…، كلّ ذلك إنّما هو وليد العامل الغريزي.
ب: الإلهام والإلقاء في القلب
لقد استعمل مصطلح الوحي في القرآن بمعنى آخر وهو: الإلقاء إلى القلب، بمعنى أنّ الملقى إليه يصل إلى تلقّي الشيء ومعرفته من دون أن يرى الملقي أو يخضع إلى تعليمه المباشر له، وهذا التلقّي في الحقيقة معلول لعاملين، هما:
- طهارة النفس: فقد تصل النفس في بعض الأحيان وبسبب الطهر المعنوي والسموّ الروحي والمعنوي والنورانيّة التي تتحلّى بها، إلى مقام تكتمل فيه لياقاتها وقدراتها بحيث تكون على استعداد لتلقّي الحقائق من الموجودات النورانيّة والشخصيّات الكاملة، بل تصل إلى درجة تلقّي تلك الحقائق من الذات المقدّسة لله سبحانه.
- وتارة اُخرى قد تنحط النفس بحيث تصل إلى درجة من الدناءة والخسّة والوقوع في الظلمة، بحيث ترتبط حينئذٍ بما يسانخها من الأرواح الخبيثة، وتتلقّى منها التعاليم الفاسدة والأفكار المنحطّة والمخادعة التي لا أساس لها أبداً.
وإذا ما استعملت كلمة (الوحي) في الحالتين، فما ذلك إلاّ بسبب وجود ملاك الإطلاق وهو توفّر صفتي: الخفاء، والسرعة، في تلك التعاليم، والأفضل أن نطلق على القسم الأوّل عبارة (الإلهام والإشراق)، وعلى القسم الثاني (الوسوسة الشيطانيّة).
ج: وحي الشريعة
إنّ الإنسان العادي قد يتوصّل إلى النتائج التي يتوخّاها من خلال الحسّ والتجربة، أو إجالة الفكر والتدبّر والاستدلال، ولكن ذلك لا يعني انحصار طرق المعرفة وسبلها بهذين الطريقين؛ بل هناك طريق ثالث للمعرفة يفاض على النفس من العالم العلوي يكون الهدف منه هداية المجتمع الإنساني وسوقه إلى الكمال والرقي والتعالي، وهذا ما يطلق عليه اسم (الوحي التشريعي).
والحقيقة أنّ هذا الوحي التشريعي لا يختلف من جهة الماهيّة والحقيقة عن القسمين السابقين، نعم النكتة الكامنة في هذا القسم هي مسألة الهداية وإرشاد الناس إلى المبدأ والمعاد. وهذه الخصيصة اُخذت باعتبارها قيداً لازماً لهذا النوع من الوحي، حيث قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرينَ} [سورة الشعراء:193ـ 194].
وعلى هذا الأساس فإنّ الأنبياء وإن كانوا يمتلكون وسائل المعرفة كالحسّ والعقل، ولكنّ شريعتهم لا تكون نتاج تلك الوسائل المعرفية؛ بل أنّها جميعاً تتعلّق بالعالم العلوي، حيث ينزل الوحي على نفوسهم وأرواحهم وبأمر من الله سبحانه حاملاً رسالته وتشريعاته سبحانه، ولذلك لا يخطأون أدنى خطأ في ضبط وحفظ وإبلاغ وبيان الأحكام الإلهيّة.
ولذلك، فكلّ محاولة لتفسير ووضع حركة الأنبياء في إطار الهداية، بأنّها وليدة الحسّ والعقل، أو هي نتاج الاستعداد والنبوغ الذاتي للأنبياء، لا تبعده عن كونها محاولة انحرافيّة يسير صاحبها في طريق أعوج، ومن المستحيل أن توصله محاولته تلك إلى الهدف الذي يرومه، والحقيقة أنّ السبب الذي دعا أصحاب هذا التفكير الخاطئ إلى مثل هذه المحاولات هو عدم اعتقادهم بوجود عالم خارج عالم المادّة والطبيعة، فلذلك اضطرّوا إلى أن يضفوا على جميع الحوادث صبغة مادّيّة وأنّها نتاجات بشريّة نابعة من علل مادّيّة لا غير.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى طائفة من الأنبياء بقوله: {وَجَعلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدينَ} [سورة الأنبياء: 73].
وحينئذٍ لابدّ من معرفة المراد من الوحي في هذه الآية.
إنّ أغلب المفسّرين قالوا: إنّ المراد من الوحي هنا هو الوحي التشريعي الذي ينزل على جميع الأنبياء ليبيّن لهم وظائفهم ووظائف العباد والمهامّ التي لابدّ من القيام بها والتي تنظّم حياتهم، وعلى هذا، فالآية ناظرة إلى نوع خاصّ من أنواع الوحي، لا إلى جميعها.
نعم، بالالتفات إلى المباحث السابقة يمكن القول: إنّ للوحي معنىً واحداً لا غير، وإنّه قد استعمل في القرآن الكريم في هذا المعنى الواحد، وإنّ الاختلاف وقع في المتعلّق. ثمّ إنّ الملاك المجوّز لهذا الاستعمال موجود في جميع أنواع الوحي وهو: أنّ الجميع تشترك في كونها نوعاً من التعليم الخفي المقترن بالسرعة، سواء كان الطرف المتلقّي هو الإنسان أو سائر الحيوانات والجمادات، وسواء كان التعليم يتعلّق بهداية الناس وإرشادهم أو لا، وسواء كان المعلم الله سبحانه أو غيره. [منشور جاويد:10/79ـ 95].