لقد اهتمّ الإسلام العزيز بالمرأة أيّما اهتمام، إلى الحدّ الّذي أنزلت سورة طويلة مسمّاة باسم “النساء” في القرآن الكريم. وهذا يدلّ على خطورة وأهمّية العنصر النسائي في المجتمع الإنساني، وعلى اهتمام الإسلام بهذا العنصر، إلّا أنّ التاريخ والحاضر قد ظلمها، ولم يلتفت إلى خطورة دورها، فأنقص حقوقها وهدرها. ونحن ذاكرون بعض حقوق المرأة العامّة في الإسلام، عسى أن يكون ذلك دافعاً لردّ بعض الشبهات الّتي قد تعتري بعض الناس حول وضع المرأة في الإسلام.
1 – حقُّ الإرث والدية
يُثير بعض الناس شبهة، تقول: إنّ الدِّين الإسلاميّ قد اضطهد المرأة، وظلمها عندما جعل حظّها من الميراث نصف حظّ الرجل، كما جعل ديتها في القتل نصف ديته، وهذا معناه أنّ قيمة الرجل في الإسلام أعظم من قيمة المرأة؟!
أ – حقُّ الإرث
الجواب: إنّه كما كانت المرأة في العصر الجاهليّ لا يحقّ لها الإرث، بل كانوا يعتبرونها جزءاً من إرث الرجل الميت، فيورِّثها أبناءه، كذلك كانت المرأة الأوروبيّة في القرون الوسطى وحتّى عصر النهضة في القرن التاسع عشر، محرومة من الإرث.
ولكن عندما جاء الإسلام قرّر للمرأة الحقّ في الإرث، وأنّها ليست مالاً كي تورَّث. قال تعالى: ﴿وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾1.
فعلى ضوء هذه الآية الكريمة تمّ تثبيت حقّ المرأة بالإرث، وفي آية أخرى حدّد الله تعالى سهم المرأة بقوله:﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن﴾2 ؛ أي أنّ سهم المرأة من الإرث يُعادل نصف سهم الرجل، فالولد الذكر يرث ضعف ما ترثه البنت، ويرث الأخ ضعف ما ترثه الأخت، ويرث الزوج ضعف ما ترثه زوجته… ولكنّ هذا كلّه من حيث المبدأ، إلّا أنّه قد تختلف حصّة الرجل والمرأة في بعض فروع موارد الإرث ومشتقّاتها، بحيث إنّهما يتساويان أحياناً 3، بل وتزيد حصّة المرأة على حصّة الرجل في موارد أخرى. على أيّة حال ليست حصّة الرجل ضعف حصّة المرأة على الدوام.
وأمّا سبب تحديد الإسلام سهم المرأة ـ زوجةً أو أختاً أو بنتاً ـ بنصف سهم الرجل، فهو يعود إلى الوضع الخاصّ بالمرأة في المهر والنفقة. حيث لم يفرض عليها أيّ نفقة أو مهر، فعندما تكون تحت كنف أبيها تجب نفقتها عليه، وبعد أن تنتقل إلى كنف الزوج لا تتحمّل من نفقات حياتها وأسرتها أيّ شيء، بل أوجب الإسلام على زوجها نفقتها ما دامت على عاتقه، كما فرض على الرجل صِداقها ومهرها.
ومن هنا، فما يصل إليها من الميراث يبقى لها وتصرفه فيما تشاء أو تدّخره، بينما ما يأخذه الرجل يُنفقه عليها وعلى عياله، لذا اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يُوزّع الميراث للرجل مثل حظّ الأنثيين، تعويضاً له عمّا يُنفقه ويبذله على أسرته.
يقول السيّد الطباطبائي في معرض تفسيره لآية ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾. إنّ التأمّل في سهام الرجال والنساء في الإرث يفيد أنّ سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلّا في الأبوين فإنّ سهم الأمّ قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة ولعلّ تغليب جانب الأمّ على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمسّ رحماً بولدها ومقاساتها ككلّ شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾4وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حدّ المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعاً.
وأمّا كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلاً وكون الإنفاق اللازم على عهدته، قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِم﴾5 والقوام من القيام وهو إدارة المعاش، والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقّل فإنّ حياته حياة تعقّلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية، وإعطاء زمام المال يداً عاقلة مدبّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يداً ذات إحساس عاطفي.
و هذا الإعطاء والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقّل على تدبير الإحساس والعواطف فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة.
و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، وعندها الثلث الّذي تتملّكه وبيدها أمر ملكه ومصرفه.
وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أنّ الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها، وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها، وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقّل على روح الإحساس والعواطف في الرجل، والتدبير المالي بالحفظ والتبديل والإنتاج والاسترباح أنسب وأمسّ بروح التعقّل، وغلبة العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة على روح التعقّل في المرأة، وذلك بالمصرف أمسّ وألصق؛ فهذا هو السرّ في الفرق الّذي اعتبره الإسلام في باب الإرث والنفقات بين الرجال والنساء.
وينبغي أن يكون زيادة روح التعقّل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الّذي ذكره الله سبحانه في قوله عزّ من قائل: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهمْ عَلَى بَعْضٍ﴾6 الآية، دون الزيادة في البأس والشدّة والصلابة فإنّ الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجوديّة يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتّب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والأعمال الشاقّة وتحمّل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والأهوال، وهذه شؤون ضروريّة في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.
لكنّ النساء أيضاً مجهّزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة الّتي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، ولها آثار هامّة في أبواب الأنس والمحبّة والسكن والرحمة والرأفة وتحمّل أثقال التناسل والحمل والوضع والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت، ولا يصلح شأن الإنسان بالخشونة والغلظة لولا اللينة والرقّة، ولا بالغضب لولا الشهوة، ولا أمر الدنيا بالدفع لولا الجذب.
وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة تتعادل بهما كفّتا الحياة في المجتمع المختلط المركّب من القبيلين، وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم، ولا يظلم ربّك أحداً وهو القائل: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾7 وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضيّة بقوله في الآية: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.
و قال سبحانه أيضاً: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾8 فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان وهو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش، وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسّل إلى القوّة والشدّة حتّى ما في المغالبات والغزوات والغارات ولو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكرّ وآخر يفرّ.
لكنّ الله سبحانه خلق النساء وجهّزهنّ بما يوجب أن يسكن إليهنّ الرجال وجعل بينهم مودّة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودّة والرحمة، فالنساء هنّ الركن الأوّل والعامل الجوهري للاجتماع الإنساني.
ومن هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي وهو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾9 ، فبدأ بأمر ازدواج الذكر والأنثى وظهور التناسل بذلك ثمّ بنى عليه الاجتماع الكبير المتكوّن من الشعوب والقبائل.
و من ذيل الآية يظهر أنّ التفضيل المذكور في قوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ الآية، إنمّا هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم، ويصلح به حال المجتمع إصلاحاً جيّداً، وليس المراد به الكرامة الّتي هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام وهي القربى والزلفى من الله سبحانه فإنّ الإسلام لا يعبأ بشيء من الزيادات الجسمانية الّتي لا يستفاد منها إلّا للحياة المادّية وإنمّا هي وسائل يتوسّل بها لما عند الله.
فقد تحصّل من جميع ما قدّمنا أنّ الرجال فضّلوا على النساء بروح التعقّل الّذي أوجب تفاوتاً في أمر الإرث وما يشبهه لكنّها فضيلة بمعنى الزيادة وأمّا الفضيلة بمعنى الكرامة الّتي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت10.