الرئيسية / القرآن الكريم / أسوار الأمان في صيانة المجتمع من الإنحراف على ضوء سورة الحجرات

أسوار الأمان في صيانة المجتمع من الإنحراف على ضوء سورة الحجرات

30)﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾: لو حرف شرط واذا دخلت على الفعل الماضي أفادت امتناع الشرط لامتناع الجزاء. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها.

 

﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ هل من فرق بين حتى تخرج وإلى أن تخرج؟  الجواب: إن “حتى” مختصة بالغاية المضروبة. تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و”إلى” عامة في كل غاية، فقد أفادت “حتى” بوضعها: أن خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأيّ فائدة في قوله إليهم؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم، لكان خيراً لهم في “كان” إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو، وإما ضمير مصدر صبروا، كقولهم: من كذب كان شراً له والله غفور رحيم بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا[1].

 

– مجيء الآية على النمط الَّذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر، من بيّنات إكبار محلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجلاله.

 

منها: مجيئها على النظم المسجّل على الصائحين به بالسفه والجهل لما أقدموا عليه.

 

ومنها: لفظ الحجرات، وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.

 

 

ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الَّذي تبيّن به ما استنكر عليهم. يعني: لم يصف الحجرات بأنّها موضع خلوة ومقيل، بل اقتصر على الحجرات.

 

ومنها: التعريف باللام دون الإضافة.

 

ومنها: أن شفع ذمّهم في خاتمة الآية باستجفائهم، واستدراك عقولهم، وقلَّة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش سوء أدبهم.

 

وهلمّ جرّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور الَّتي تنتمي إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلِّها، من غير حصر ولا تقييد. ثمّ أردف ذلك النهي عمّا هو من جنس التقديم، من رفع الصوت والجهر، كأنّ الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره. ثمّ ذكر ما هو ثناء على الَّذين تحاموا ذلك فغضّوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثمّ جيء على عقب ذلك بما هو أطمّ وهجنته أتمّ، من الصياح برسول الله في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه، لأنّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتّى خاطبه جلَّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الَّذي بلغ من التفاحش مبلغاً. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب.

 

ثمّ أدّبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ في محلّ الرفع على الفاعليّة، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم، فإنّ “أنّ” وإن دلَّت بما في حيّزها على المصدر، دلَّت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾. وهاهنا المفعول محذوف. والتقدير: ولو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات ﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ أي: الصبر مغيّا بخروجه.

 

 

– (لَكانَ) الصبر ﴿خَيْرًا لَّهُم﴾ من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسؤول، إذ روي أنّهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ، فأطلق النصف وفادى النصف، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلَّهم بغير فداء.

 

 – ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بليغ الغفران والرحمة، حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا[2].

 

[1] (م.ن).

[2] زبدة التفاسير، فتح الله الكاشاني، ج6، ص 415 -416.

شاهد أيضاً

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر العربيّ

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر ...