عندما كانت القضية الفلسطينية في السبعينات من القرن الماضي، أهم قضية للعرب والمسلمين، وكانت اسرائيل هي العدو الاول للعرب، لم يتجرأ أحد في العالم العربي على طرح أي موضوع يشم منه رائحة بدء حوار بين مسؤولين عرب واسرائيليين.
وعندما كشفت الصحافة الاسرائيلية في القرن الماضي بأن أحد الزعماء العرب كان يتردد سرا على “اسرائيل” وكان يعقد لقاءات مع الزعماء الاسرائيليين وحتى قيل انه كان يتلقى مرتب شهري من السي اي ايه ، ثارت ضده الصحافة العربية، وهاجمته بشدة وخونته على اعتبار انه أجرى اتصالات سرية مع العدو الصهيوني وخرق القرار العربي بعدم الاتصال مع العدو. ولكن الولايات المتحدة تمكنت إقناع الرئيس المصري الاسبق انور السادات بعقد اتفاقية سلام مع “اسرائيل” والصلح معها، رغم معارضة كبيرة من جانب العرب والمسلمين .
وقد زار الرئيس المصري انور السادات “اسرائيل” واتفق مع الامريكان على التوقيع على اتفاقية سلام مع الاسرائيليين ، وقد حضر في منتجع كامب ديفيد في ولاية ميريلاند القريب من عاصمة الولايات المتحدة واشنطن مع رئيس الوزراء الاسرائيلي مناخيم بيغن ووقعا على اتفاقية كامب ديفيد بحضور الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر في 17 سبتمبر 1978. وعارض العرب خطوة السادات حتى انهم علقوا عضوية مصر في جامعة الدول العربية من عام 1979 إلى عام 1989 نتيجة التوقيع على هذه الاتفاقية.
ولكن النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في اقناع السادات بالصلح مع “اسرائيل”، جعلها تواصل العمل من اجل إجراء مصالحة بين الاردن و”اسرائيل” حيث وقعتا في 26 اكتوبر 1994 على اتفاقية سلام سميت اتفاقية وادي عربة ووقع الاتفاقية من جانب الاردن الملك حسين ومن الجانب الاسرائيلي اسحاق رابين . بعد التوقيع على اتفاقيتي السلام بين زعيمين عربيين والاسرائيليين ، رأى الزعماء العرب ان الانفتاح على “اسرائيل” سيرضي الامريكان وسيعزز من نفوذهم وسيطيل من اعمار حكوماتهم.
وفي التسعينات حصلت لقاءات بين مسؤولين عرب واسرائيليين داخل “اسرائيل” وخارجها ، وادت هذه اللقاءت الى فتح مكاتب اتصال ومكاتب تجارية لاسرائيل في عدد من الدول العربية منها قطر والمغرب واخذ الزعماء الاسرائيليون يزورون دولا عربية، واخذ مسؤولون عرب يزورون “اسرائيل” على مرأى ومسمع العرب دون ان يخافوا من ردود الفعل العربية .
كما وصل التعاون الاسرائيلي العربي ، الى حد قامت فيه وفود اسرائيلية بزيارة دول خليجية بدعوات رسمية لتعزيز التعاون وتبادل الخبرات في المجالات الامنية والاستخبارية ، وقد كشفت وسائل اعلام اسرائيلية عن عدة لقاءات سرية دارت بين كبار المسؤولين بحكومة كيان الاحتلال ووزراء خارجية عرب من بينها لقاء سري جمع بين وزير خارجية الكيان الاسرائيلي ووزير خارجية المغرب.
وقالت صحيفة جيروزاليم بوست الاسرائيلية، ان وزير الخارجية الاسرائيلي التقى سرا في نيويورك بنظيره المغربي”الطيب الفاسي الفهري، دون ان تعلن عن اية تفاصيل حول هذا اللقاء”.
الاذاعة العبرية كشفت ايضا من خلال مراسلها في نيويورك عن لقاء آخر جمع رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو بوزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن احمد بن محمد آل خليفة.
وبذلك فقد تحولت أروقة الجمعية العامة للامم المتحدة الى منبر سري للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، بالرغم من التأكيدات العربية المتكررة برفض التطبيع الحالي مع أي من اعضاء حكومة الكيان الاسرائيلية، الا بعد التزامها بوقف الاستيطان والانخراط بشكل جدي في عملية التسوية.
وقد نشرت وسائل الاعلام العالمية عن اتصالات سرية بين مسؤولين اسرائيليين وسعوديين وعلى اعلى المستويات من اجل بدء تعاون بين الجانبين ولكن المسؤولين السعوديين اشترطوا بدء تعاون موسع بين “اسرائيل” والعالم العربى وإقامة اتصالات بين الشعوب اذا وَقَعت “اسرائيل” معاهدة سلام وانسحبت من جميع الأراضي العربية المحتلة.
وفي مقابلة مع وكالة انباء رويترز قال الأمير تركي الفيصل وهو سفير سابق الى الولايات المتحدة وبريطانيا ومستشار سابق للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ان “اسرائيل” والعرب يمكن أن يتعاونوا في كثير من المجالات بينها المياه والزراعة والعلوم والتعليم.
وعندما سُئل عن طبيعة الرسالة التي يريد ان يبعثها الى الشعب الاسرائيلي قال “من خلال مبادرة السلام العربية تجاوز العالم العربي حد العداء تجاه “اسرائيل” الى السلام مع “اسرائيل” ومد يد السلام لاسرائيل ونحن بانتظار أن يمسك الاسرائيليون يدنا وينضمون الينا فيما سيعود حتما بالنفع على “اسرائيل” والعالم العربي.”
وخلال قمة بالعاصمة السعودية الرياض العام الماضي أحيت جامعة الدول العربية التي تضم 22 عضوا خطة سعودية للسلام طرحت للمرة الأولى عام 2002. وتعرض مبادرة السلام العربية على “اسرائيل” التطبيع الكامل للعلاقات مع الدول العربية مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية المحتلة . ورفضت “اسرائيل” العرض وقتها خلال ذروة الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقال الأمير تركي الذي شغل سابقا منصب مدير المخابرات السعودية انه اذا قبلت “اسرائيل” خطة الجامعة العربية ووقعت اتفاق سلام شاملا “فيمكن أن يتصور المرء اندماج “اسرائيل” في الكيان الجغرافي العربي.”
وأضاف “يمكن أن يتصور المرء وجود علاقات بين العرب والاسرائيليين ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي بل أيضا في مجالات مثل التعليم والبحث العلمي ومكافحة التهديدات المشتركة لسكان هذه المنطقة الجغرافية المترامية الأطراف.”
وجاءت تصريحاته على هامش مؤتمر عن الشرق الاوسط وأوروبا نظمته مؤسسة برتلزمان للأبحاث. وكانت من بين أكثر التصريحات شمولا واتساعا من مسؤول سعودي الى الاسرائيليين. وقال الامير تركي “ستكون هناك زيارات متبادلة بين شعبي “اسرائيل” وباقي الدول العربية.”
وتابع “سنبدأ بالنظر الى الاسرائيليين باعتبارهم يهودا عرب وليس باعتبارهم اسرائيليين” مشيرا الى أن الكثير من العرب ينظرون الى “اسرائيل” تاريخيا باعتبارها كيانا أوروبيا فرض على العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن يوسي ألفير وهو مشارك اسرائيلي في المؤتمر وأحد رؤساء تحرير موقع بيتر ليمونز الاسرائيلي الفلسطيني على الانترنت ومسؤول كبير سابق في المخابرات رحب بتصريحات الامير تركي. وقال ألفير “سعدت لسماع وصف الامير تركي للطبيعة الشاملة للتطبيع كما يتصورها ضمن إطار مبادرة السلام العربية.”
الاتصالات العربية الاسرائيلية لم تنقطع، بل ازدادت وتطورت واصبح التخاطب بين المسؤولين الاسرائيليين والعرب امرا عاديا وطبيعيا . وكانت وسائل اعلام عربية ومنها قناة الجزيرة قد ادت دورا كبيرا في التقريب بين المسؤولين العرب والاسرائيليين واجرت القناة لاول مرة مقابلات مع المسؤولين الاسرائيليين لكسر حاجز القلق والخوف من التعامل بين الاسرائيليين والعرب.
فقد ذكرت صحيفة يديعوت احرونوت في بداية الاسبوع الجاري ان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، أدلى قبل نحو أسبوعين، بتصريحات أمام مسؤولين عرب رفيعي المستوى شاركوا في مؤتمر أمني لدول الخليج الفارسي في دولة الإمارات العربية المتحدة .
واعتبرت قناة (آي24 نيوز) الإسرائيلية التي نقلت الخبر عن صحيفة (يديعوت أحرونوت) الحدث بـ”التاريخي وغير المسبوق . وذكرت القناة، على موقعها الالكتروني بالانجليزية على شبكة الانترنت، صباح الاثنين، أن“ظهور بيريز جاء خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر أمني عقد في العاصمة أبوظبي، قبل أسبوعين، حضره 29 من وزراء الخارجية العرب، وكبار الشخصيات من دول العالم الاسلامي”، دون أن تذكر أسماء لهذه الشخصيات.
وبحسب القناة نفسها فإن “هذا المؤتمر الذي بقي طي الكتمان حتى نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية الإثنين تفاصيل بشأنه، أُجري عبر نظام الفيديو كونفرنس مع بيريز الذي كان يجلس في مقر إقامته بالقدس أمام العلم الإسرائيلي باللونين الأزرق والأبيض”.
وقالت إن “بيريز دُعي لإلقاء كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الأمني لدول الخليج الفارسي ، والذي حضره مسؤولون وخبراء من العالم العربي والإسلامي”؛ حيث أدار المقابلة الحية، عبر القمر الصناعي، تيري رود لارسن، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، كما لعب مارتن إنديك مبعوث الرئيس الأمريكي باراك أوباما الخاص لمحادثات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية، دوراً أساسياً إلى جانب لارسن في ترتيب ظهور بيرس″.
و”استمع المشاركون في المؤتمر باهتمام للرئيس الإسرائيلي، ولم يغادر أحد الغرفة، وذلك بعد أن صفقوا له في نهاية كلمته”، حسبما ذكرت (يديعوت أحرنوت) التي لم تذكر مزيدًا من التفاصيل حول المؤتمر.
وكان بيريز قد دعي للتحدث من قبل راعي المؤتمر، وهي حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة؛ إلا أن أحد شروط الدعوة كان “التعتيم الإعلامي بشأن ظهور بيريز″، على حد قول الصحيفة. وحضر هذا المؤتمر، المحلل السياسي الأمريكي المخضرم والكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز″ توماس فريدمان، بحسب ما ذكره في إشارة موجزة بمقاله المنشور في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وكتب فريدمان أن “الظهور غير العادي لبيريز لم يكن بدافع من رياح المصالحة بين العرب وإسرائيل”؛ ولكن“هذا التعاون الضمني بين “إسرائيل” والعرب يستند على التقاليد القبلية التي تقول ‘عدو عدوي هو صديقي‘- والعدو هو إيران. واضاف فريدمان ، وبالفعل، تحدث بيريز عن التهديد المشترك لإسرائيل والمنطقة من البرنامج العسكري النووي الإيراني، وذلك في وقت لم تكن طهران قد توصلت فيه بعد إلى اتفاقها المرحلي مع الدول الكبرى بشأن ملفها النووي.
ونقلت يديعوت أحرنوت عن مسؤول لم تذكر اسمه أو جنسيته، قوله “كان هناك حماس كبير من كلا الجانبين (بيريز والمشاركين العرب في مؤتمر أبو ظبي)، والجميع يفهم أن هذا (المؤتمر) كان حدثاً تاريخياً، فرئيس الدولة اليهودية يجلس في مكتبه بالقدس والناس يجلسون في الخليج الفارسي لمناقشة الأمن ومكافحة الإرهاب، والسلام”.
وهكذا بدأ شهر العسل بين المسؤولين العرب والرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز قبل اسابيع ، وقد استغل الاسرائيليون التوقيع على الاتفاق النووي بين ايران ومجموعة 5+1 ليقتربوا من العرب الساخطين على الولايات المتحدة التي اجرت حوارا مع الوفد الايراني وسهلت التوقيع على الاتفاق. ولكن وسائل الاعلام الاسرائيلية نشرت اخيرا معلومات سرية عن اتفاق بين الاسرائيليين والسعوديين على فتح السعوديين مجالهم الجوي امام الطائرات الاسرائيلية إن ارادت العدوان على المنشات النووية الايرانية.