روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُول:” جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ وَ جُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لَا يَجِدُ الرَّجُلُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا”.1
________________________________________
1- الكافي، الكليني، ج2، ص 128، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح2.
قبس من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كلام الإمام علي عليه السلام
“… فَتَأَسَّ1 بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَر صلى الله عليه وآله وسلم ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ.
قَضَمَ الدّنيا قَضْماً2، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ3أَهْلِ الدّنيا كَشْحاً4، وَأَخْمَصُهُمْ5مِنَ الدّنيا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدّنيا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ…
وَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ6، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ7، وَيُرْدِفُ8خَلْفَهُ، وَيَكُونُ
________________________________________
1- تأسّ: أي اقْتَدِ.
2- القَضْم: الأكل بأطراف الأسنان، كأنّه لم يتناول إلاّ على أطراف أسنانه، ولم يملأ من الطعام منها فمه.
3- أهْضَمُ: من الهضم وهو خمص البطن، أي خلوّها وانطباقها من الجوع.
4- الكَشْح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلْع الخلفيّ.
5- أخْمَصُهم: أخلاهم.
6- خَصَفَ النعلَ: خرزها وأصلحها.
7- الحمار العاري: ما ليس عليه بَرْدَعة ولا إكاف.
8- أرْدَف خلفه: أركب معه شخصاً آخر على حمار واحد أو جمل أو فرس، وجعله خلفه.
السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ: “يَا فُلاَنَةُ ـ لْإِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدّنيا وَزَخَارِفَهَا”. فَأَعْرَضَ عَنِ الدّنيا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً9، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلاَ يَرْجُو فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا10عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.
وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدّنيا وَعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ11، وَزُوِيَتْ عَنْهُ12 زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ13.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ – وَاللهِ الْعَظِيمِ – بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ, وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدّنيا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ. فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً عَلَماً لِلسَّاعَةِ14، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ. خَرَجَ مِنَ الدّنيا خَمِيصاً15، وَوَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ.
فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطَأُ
________________________________________
9- الرِّياش: اللّباس الفاخر.
10- أشخصها: أبعدها.
11- خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر، أي مع خصوصيّته وتفضّله عند ربّه.
12- زُوِيَت عنه ـ بالبناء للمجهول ـ: قُبِضَت وأُبْعِدت، ومثله بعد قليل: زَوَى الدّنيا عنه: قبضها.
13- عظيمَ زُلْفَتِه: منزلته العليا من القرب إلى الله.
14- العَلَم بالتحريك: العلامة، أي إنّ بعثته دليل على قرب القيامة، إذ لا نبيّ بعده.
15- خميصاً: أي خالي البطن، كناية عن عدم التمتّع بالدّنيا.
عَقِبَهُ16! وَاللهِ، لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي17هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي18، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى19!”.
وهذا المثل “عند الصباح يحمد القوم السُرى”. معناه: إذا أصبح النّائمون وقد رأوا السارين قد وصلوا إلى مقاصدهم حَمِدوا سُراهم، وندموا على نومهم.
أو إذا أصبح السارون وقد وصلوا إلى ما ساروا إليه، حَمدوا سراهم، وإن كان شاقّاً، حيث أبلغهم إلى ما قصدوا.
ومعنى هذا المثل هنا: أنّ المستقبل والسّبق لأصحاب الاستقامة.
________________________________________
16- العقِب ـ بفتح فكسر ـ: مؤخَّر القدم. ووطء العقب مبالغة في الاتّباع والسّلوك على طريقه، نقفوه خطوة خطوة حتى كأنّنا نطأ مؤخّر قدمه.
17- المِدْرَعة ـ بالكسر ـ: ثوب من صوف.
18- اغْرُبْ عنّي: اذهب وابعد.
19- السُرَى: السَّير ليلاً.