روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُول:” جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ وَ جُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لَا يَجِدُ الرَّجُلُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا”.1
________________________________________
1- الكافي، الكليني، ج2، ص 128، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح2.
سقوط الخواص وزهد أعمى
ما أجود طلحة:
كان سعيد بن العاص من بني أُمَيَّة، ومن أقارب عثمان، وقد ظهر على الساحة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ليصلح ما كان قد أفسده الوليد.
ذاتَ يومٍ, قال رجلٌ في مجلسه: “ما أَجوَدَ طلحة!”. ولا بدّ أنّ طلحة كان قد وهب أحداً مالاً أو تكرّم على شخص، فقال سعيد بن العاص: “إنّ من له مثل النشاستج لحَقيقٌ أن يكون جواداً”، وكانت “النشاستج”1 ضيعةً كبيرةً ذات محاصيل وافرة قرب الكوفة، يملكها صحابيّ الرّسول طلحة بن عبد الله، الذي كان يعيش حينذاك في المدينة، ثمّ أردف قائلاً: “والله، لو إنّ لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً”.
فلا ضير أن تقولوا هو جواد، أي “ما أَجوَدَ طلحة!”.
قارنوا هذا الوضع مع حالة الزُّهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفترة الأولى ما بعد رحيله، ولاحظوا طبيعة الحياة التي كان يعيشها الأكابر والأمراء والصّحابة في تلك السّنوات، وكيف كانوا ينظرون إلى الدّنيا.
وقد وصلت الأوضاع بعد مضيّ 10 سنوات أو 15 سنة إلى هذا الحدّ.
________________________________________1- لعلّ كلمة “نشاسته” بالفارسية مشتقّة منها.
أبو موسى الأشعريّ وبِغَالُه الأربعون:
المثال الآخر هو أبو موسى الأشعري والي البصرة, وهو الأشعريّ صاحب الموقف الشّهير في قضيّة التحكيم. صعد المنبر ذات يوم، وكان النّاس يستعدّون لإحدى الغزوات، فأخذ يحضّهم على الجهاد، وذكر أحاديثَ في فضل الجهاد والتّضحية. وكثير من النّاس لم يكن لديهم دوابّ يركبونها للذّهاب، وكلّ واحد كان عليه أن يمتطي جواده ويذهب، ولِحَثِّهم على الذّهاب مُشاةً، بالغ في ذكر فضل الجهاد مشياً، فقال: إنّ له قدراً كبيراً وأجراً جزيلاً! فما كان من كلامه الحماسيّ إلاّ أن دفع بعضهم فتركوا دوابّهم, وقالوا: لنخرج رجّالة، لماذا الخيل؟! طمعاً في الثواب. “فَحَمَلوا عل فرسهم”2, أيّ نهروها وأبعدوها عنهم لأنّها تحرمهم من الثّواب. إلاّ إنّ جماعة آخرين من العقلاء فضّلوا التأمّل ومشاهدة حقائق الأمور، وقالوا: لا نعجل في شيء حتى ننظر ماذا يصنع، “فإن أَشْبَهَ قولُه فعلَه”، فعلنا كما يفعل.
جاء في نصّ عبارة ابن الأثير: “فلمّا خرج، أخرج ثِقله من قصره على أربعين بغلاً”3. كانت تلك ممتلكاته الثّمينة، وكان مضطرّاً إلى اصطحابها حيثما حلّ وارتحل، حتّى إلى ميادين الجهاد. فلم تكن ثمّة مصارف أو بنوك في ذلك العصر، والحكومات لا اعتبار لها، فقد يأتيه الأمر من الخليفة بعزله من منصبه وهو في ساحة الجهاد، وإن حصل
________________________________________2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ المجلد الثالث, ص99-100 / والطبري, تاريخ الطبري، ج3, ص320, عبارة الطبري: “حتى حمل نفر على دوابهم…”.
3- م. ن.
ذلك فلا يمكنه الرجوع إلى البصرة وأخذ تلك الأموال، لذلك كان مضطرّاً لحملها معه، فحمل ممتلكاته الثّمينة على أربعين بغلةً إلى ميدان الجهاد!.
ولمّا خرج، جاءه قومٌ وتعَلّقوا بعنان فرسه، وقالوا: “احملنا على بعض هذه الفضول”، أَركِبنَا على هذه البغال الكثيرة، فقد خرجنا مشاةً، فما تلك الأشياء التي جلبتها معك إلى ميدان المعركة؟! “وارغبْ في المشي كما رَغّبتنا، فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابّته… فمضى”4، ذهبوا وتفرقوا, إلاّ أنّهم طبعاً لم يتحمّلوا ذلك منه، بل ذهبوا إلى المدينة وشكوه إلى عثمان، فعزله. مع أنّ أبا موسى كان من صحابة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الخواصّ والكبار أيضاً، وكان على مثل تلك الحال.