روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُول:” جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ وَ جُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لَا يَجِدُ الرَّجُلُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا”.1
________________________________________
1- الكافي، الكليني، ج2، ص 128، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح2.
نخالة السويق درسٌ للوالي:
يُروى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد – على الأرجح – تعيين رجلٍ من ثقيف والياً على إحدى المناطق9، فقال عليه السلام له: “إذا صلّيت الظّهر غداً فعُد إليّ”. والمتعارف عليه في زماننا عند تعيين محافظ أو مسؤول، إنّ الحاكم يستدعيه ليبلغه ما لديه من توصيات. يقول هذا الشخص: “فعُدت إليه في الوقت المعيّن، فلم أجد عنده حاجباً يَحبِسُني دونه،
________________________________________7- كرابيس جمع كرباس، وهو الثوب الخشن, كلمة فارسيّة معرّبة. الجلم: المقراض.
8- من كلامه في خطبة صلاة الجمعة – طهران، 31/12/1999.
9- وهي منطقة “عكبرا”.
فوَجَدتُه جالساً وعنده قدح وكوز ماء، فدعا بوعاءٍ مشدودٍ مختوم، فقلتُ في نفسي: لقد أمّنني حتّى يُخرِج إليّ جوهراً، فكَسَر الختم وحلّه، فإذا فيه سُويق10، فأخرج منه فصبّه في القدح وصبّ عليه ماءً، فشرب وسقاني، فلم أَصبِرْ، فقلت: يا أمير المؤمنين: أتصنع هذا في العراق وطعامه كما ترى في كثرته؟ فقال: أمّا والله، ما أختم عليه بخلاً به – أي إنّني لا أخاف أن يأكل أحدٌ ما من هذا الطّحين الرّخيص – ولكنّي أبتاع قدر ما يكفيني من هذا الطّحين، وهو من أرخص الأنواع، فأخاف أن يَنقُص فيُوضع فيه من غيره – أيْ إنّني أخاف أن يضع فيه أحد من غير الطّحين الذي ابتعته – وأنا أكره أن أُدخل بطني إلاّ طيّباً – أيْ إنّني أريد أن آكل طعاماً طيّباً- اشتريتُه من مالي ولا مال فيه لأحد”11.
عندما أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يُعلّم هذا الوالي، استدعاه ليريه هذا المشهد، وليقول له هذا الحديث، في حين أنّه كان باستطاعته أن يوصيه في المسجد، لكنّه أحضره ليُفهِمه ويقول له: إنّك ذاهبٌ لتتولّى مدينة فيها جموعٌ من النّاس تكون تحت إمرتك، ولذلك عليك الانتباه لخَرَاجهم وأموالهم وأرواحهم وأعراضهم، فهذه السّلطة ليست مطلقة، فكونك والياً لا يعني أنّك مطلق اليد وحرٌّ في التّصرّف، فالتَفِت، وافهَم ما الذي تقوم به.
ثمّ قال له: “فإيّاك وتناول ما لا تعلم حِلّه”، والتناول لا يقتصر على الأكل. هذه حياة أمير المؤمنين عليه السلام, وهذا هو درسه وزهده.
________________________________________
10- السُّويق: نوع من الطّحين الخشن، أو نخالة الطّحين.
11- العلامة المجلسي، بحار الأنوار, ج40, ص335، باب زهد الامام علي عليه السلام وتقواه وورعه، ح15.
رداؤه سمل قطيفة، وبردٌ قارس!
يروي أحدهم12 حادثة عن أبيه، قال: “دخلتُ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يرعد تحت سمل قطيفة13 – كان الجوّ بارداً، والإمام يجلس على قطيفة رفيعة ويرتجف- فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟!”، أي يا أمير المؤمنين، لماذا ترتجف والجوّ بارد؟ ضع شيئاً عليك، فأجابه عليه السلام: “والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً، وإنّ هذه لقطيفتي التي خرجتُ بها من منزلي من المدينة، ما عندي غيرها”14.
هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام, كان في القمّة وعلى رأس السلطة، ونحن أقلّ منه بأربعة أو خمسة آلاف قدم، فعلينا التوجّه نحوه.
هذا هو درس أمير المؤمنين عليه السلام لنا. والواقع أنّنا كيفما جُلنا في أبعاد حياة هذا العظيم، رأينا المواعظ والدروس15.
يقول القطب الرّاونديّ، وهو من كبار علمائنا في القرن السّادس، عن زهد أمير المؤمنين عليه السلام:
“ومنها أنّ كلامه الوارد في الزُّهد والمواعظ والتّذكير والزّواجر، إذا فكّر فيه المفكّر ولم يدرِ أنّه كلام عليّ عليه السلام – وهو من كان يَبسط حكومته على جانبٍ كبيرٍ من الأمصار والبلدان، وانهالت عليه كلّ
________________________________________
12- وهو هارون بن عنترة، يروي عن أبيه حادثة رآها في إحدى الحروب أو الأسفار.
13-سمل قطيفة: ثوب خلق بالٍ.
14- بحار الأنوار، م. س، ج40, ص334، باب زهد الإمام علي عليه السلام وتقواه وورعه، ح15.
15- حديث الولاية (موسوعة خطابات القائد)، ج7، ص40- 55.
تلك القضايا والمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة – لا يشكّ أنّه كلام من لا شُغل له بغير العبادة، ولا حظّ له في غير الزّهادة”. هذا هو زهد أمير المؤمنين عليه السلام, وكانت كلّ أبعاد شخصيّته كذلك في أوج عظمتها. ثمّ يضيف: “وهذه من مناقبه العجيبة التي جَمَعَ بها بين الأضداد”16 17.