مثال ورعه وحكومته
الورع يعني: اجتناب كلّ ما يحتمل فيه الكراهيّة. ولكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنّى للإنسان أن يكون ورعاً إلى هذا الحدّ وهو في الحكم؟.
فنحن الآن في الحكم نشعر بأهميّة وجود مثل هذه الخصلة؛ لأنّ
________________________________________
2- سورة الفتح، الآية: 29.
الإنسان وهو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة وينفّذ قوانين، ولكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما, والشخص المكلّف بتنفيذ القانون بشر أيضاً وقد يُسيء تطبيق القانون.
فكيف يتأتّى للمرء التزام الورع في كلّ هذه التفاصيل الجزئيّة الّتي تستعصي على الإحاطة؟ لهذا يبدو في الظاهر أنّ الحكومة والورع لا يجتمعان, إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام جمع غاية الورع مع أقوى حكومة, وهذا ممّا يثير العَجَب.
لم يكن يجامل أحداً؛ فإذا استشعر من والٍ ضعفاً وأحسّ أنّه لا يناسب هذا العمل، عزله. كان محمّد بن أبي بكر بمثابة ابنه وكان يحبّه محبّة أبنائه، وهو أيضاً كان ينظر إليه نظرة الولد للوالد.
كان محمّد أصغر أبناء أبي بكر، وتلميذاً مخلصاً للإمام عليه السلام وقد تربّى في حجره, كان قد أرسله والياً على مصر, ثمّ كتب له فيما بعد كتاباً بعزله لعدم كفاءته في إدارة مصر, وعيّن بدله مالك الأشتر.
ومن الطبيعيّ أن يستاء محمّد بن أبي بكر من ذلك، فالإنسان مهما كبر شأنه يستاء لمثل هذا, لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعتنِ لذلك.
محمّد بن أبي بكر مع ما له من شخصيّة جليلة، ومع ما لموقفه يوم الجمل وعند البيعة من أهميّة؛ فهو ابن أبي بكر وأخو أمّ المؤمنين عائشة، وعلى الرغم من مكانته عند أمير المؤمنين عليه السلام, إلّا أنّه لم ينظر إلى استيائه وامتعاضه. هذا هو الورع الّذي ينفع الإنسان وهو في الحكم, وقد
تجسّد منتهى هذا الورع في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام.
لقد اجتمع ورع أمير المؤمنين عليه السلام مع حكمه القويّ، وهذا ما لم نسمع به في العالم على مدى التاريخ.
الخلفاء الّذين سبقوا علياً عليه السلام كان لهم حزم في الكثير من المواقف, ويقرأ الإنسان في سيرتهم أعمالاً استثنائيّة, إلّا أنّ الفارق بين أمير المؤمنين عليه السلام ومن سبقه ومن تلاه حتّى يومنا هذا فارق عجيب لا يمكن وصفه ومقارنته.