التأسّي بالإمام عليّ عليه السلام
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أسوة كاملة للجميع، فشبابه المتوثّب والمتفجّر بالحماس هو نموذج للشباب، وحكومته المتميّزة بالعدل والقسط نموذج للحكّام، وحياته المشبعة بالجهاد والمسؤوليّة نموذج لجميع المؤمنين، وحرّيّته نموذج لكافّة أحرار العالم، وأقواله الحكيمة ودروسه الخالدة نموذج للعلماء والمفكّرين والمثقفين.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يألُ جهداً على امتداد عهد حكومته في إحقاق حقوق الضعفاء والمساكين والحفاة، فعلينا الاقتداء به؛ ولكنّه كان متسامحاً في حقوقه، فعلينا التأسّي به أيضاً طوال حياتنا، حيث كان مظهراً للعبادة لله والإخلاص والجهاد والسعي والحيويّة والنشاط، وكان يستقبل الأتراح والأحزان والآلام بصدر رحب؛ فأدّى واجبه بعناية، وهذه هي الأسوة الحسنة.
إنّنا نستطيع الاقتراب من آمالنا الكبرى وتحقيق مطامح بلادنا وشعبنا ونظام جمهوريّتنا الإسلاميّة، أي العدالة الاجتماعيّة، في ظلّ الاقتراب من أمير المؤمنين عليه السلام6.
________________________________________
5- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/ رمضان/ 1417ﻫ.ق.
6- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 13/ ذي الحجة/ 1420ﻫ ـ ق.
الإمام عليّ عليه السلام مثل أعلى وقدوة
منذ قرون والعارفون من المسلمين وغير المسلمين بهذه الشخصيّة المقدّسة يتكلّمون ويكتبون حول أمير المؤمنين عليه السلام ، إلّا أنّ ما قيل ليس كافياً في بيان جميع أبعاد شخصيّة هذه الأعجوبة والنموذج للقدرة الإلهيّة الكاملة والكلمة التامّة لله.
وبديهيّ أنّنا سبب المشكلة غالباً، فنحن الّذين لا يمكننا تصوّر هذه الشخصيّة المعنويّة والروحيّة لضعف أذهاننا واستئناسنا بالمقاييس المادّية والأناس العاديّين. نعم بالإمكان رسم ملامح تلك الشخصيّة المعنويّة العظيمة في الذهن ببركة أقوال من هم بمستوى أمير المؤمنين عليه السلام أو أعلى منه، وهو خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد وردت رواية من طرق غير الشيعة أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال لجمع من أصحابه:”من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه [و إلى نوح في تقواه] وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبـي طـالب”7.
أي إنّ علم آدم الّذي ورد عـنه فـي القرآن قـولـه تعـالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾8، وحلم إبراهيم الّذي قال تعالى عنه في القرآن:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾9، وهيبة موسى الّتي كانت سطوة فرعون وعظمته
________________________________________
7- الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي، ج1، ص 212.
8- سورة البقرة، الآية: 31.
9- سورة هود، الآية: 75.
ضعيفة أمامها، وعبادة عيسى الّذي كان مظهراً للزهد والإخلاص والتعبّد لله، وفي بعض الروايات المنقولة من غير الشيعة أيضاً، أضيفت عبارة أخرى وهي: زهد يحيى بن زكريا، كلّها جمعت في هذا الإنسان العظيم الّذي نعتبر أنفسنا من شيعته.
وهذا الكلام يمكنه أن يوضح لنا إلى حدٍّ ما صورة عن شخصيّة ذلك الرجل العظيم.
إنّ ما يهمّنا أيّها الإخوة والأخوات بعد المعرفة الإجماليّة أو مدى الدرجة الممكنة في معرفة هذا الإنسان العظيم وسائر أولياء الله هو أن نلتفت إلى أنّ الإمام هو ذلك المثل الأعلى الّذي يجعله الله على الأرض ويبيّنه للبشر ليعرف الناس ما هي القدوة والأسوة، وما هو الهدف الّذي يتحرّك نحوه.
فبمعرفة الإمام يهتدي الإنسان الطريق، وهذا هو المهم، ولذا فالإمام في مفهومه الإسلاميّ الصحيح هو: من يرشد الناس بسلوكه وشخصيّته وأفعاله إلى الطريق المستقيم بمقدار ما يرشدهم بلسانه وأوامره أو أكثر، وهذه مسألة مهمّة.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامنا وإمام جميع المسلمين، أي إنّ الجميع يعتقدون به كإمام، ولكن ما معنى (الإمام)؟ يعني أن نلحظ أبعاد هذه الشخصيّة كالنموذج الرفيع الّذي نضعه أمامنا، ثمّ نحاول بناء شيء شبيه به. يجب أن نروّض أنفسنا لتكون شخصيّتنا من حيث السلوك الفرديّ، والعلاقة مع الله، والتعامل مع الأخ المسلم في المجتمع، والتصرّف فيما
لدينا من أموال وإمكانات ووسائل من بيت المال، ومن حيث التعامل مع الناس باعتبارهم مجموعة بشريّة نحن رعاتها وحكّامها في جزء من حياتها، وفي الإخلاص في العمل لأجل المحرومين مادّياً أو ذهنيّاً أو علميّاً أو عقائديّاً، ومن حيث تعاملنا مع دين الله، وكيف يجب أن ندافع عنه، وكيف يجب أن نكون دقيقين تجاهه، ومن حيث معاملة أعداء الله كشخصيّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ليكن أمير المؤمنين عليه السلام أسوتنا في جميع هذه، ولنسعَ لنكون مثل ذلك الإمام؛ إذ كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه من شيعة عليّ بن أبي طالب ويكون أمير المؤمنين عليه السلام إمامه بينما تكون علاقته القلبيّة مع الله أقلّ أمرٍ يهتمّ به؟.
إنّ الإمام عليّاً عليه السلام صرف كلّ عمره في العبادة والعمل لله، منذ أوّل لحظة أشرق نور الهداية الإلهيّة في وجود ذلك الإمام عن طريق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وحتّى تلك اللحظة الّتي نال فيها لقاء الله لم يغفل الإمام عليه السلام لحظة عن عبادة الله، وعن ذكر الله، وعن الارتباط بالله.
فقد كان في ارتباط دائم مع الله، في الفرح وفي الحزن، في الحرب وفي السلم، ليلاً ونهاراً، في المسجد وفي الحرب، في الحكم وفي القضاء.
كان ذلك الإنسان يحمل همّ ضعفاء المجتمع في جميع لحظات وآنات الحكم والسلطة، ويفكّر بهم، وكذلك يوصي من يرسلهم إلى أماكن مختلفة كولاة وحكّام وسفراء وغيرهم بذلك.
فقد عهد إلى مالك الأشتر بأن يبحث عن أولئك الّذين لا تقع عيون أمثاله عليهم، فبإمكان الأثرياء والأذكياء وأهل المناصب والألسن الوصول إلى أمثال مالك الأشتر، ولكن هناك من لا يقدر على ذلك، حيث لا يملك الجرأة ولا المال ولا من يعرّفه عنده، يطلب عليه السلام منه أن يبحث عنهم ويتفقّدهم.
فأمير المؤمنين عليه السلام يأمر ولاته، وكان يباشر هذا العمل بنفسه، فيذهب إلى بيوت الفقراء ويطعم اليتامى بيده، حتّى أنّ شخصاً قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أطعم اليتامى بيده إلى درجة أنّنا كنّا نتمنّى أن نكون يتامى.
فكيف يدّعي شخص أنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامه في حين أنّه لا يتفقّد في فترة حكمه وسلطته ورئاسته ولو كانت رئاسة محدودة في منطقة من مناطق البلد المحرومين والفقراء والمستضعفين؟
وكيف يدّعي أنّ هذا الإمام هو إمامه، وهو غير قادر على تحمّل صفعة واحدة في سبيل الله، بينما كان ذلك الرجل يحارب أعداء الله ليل نهار لتبليغ الدين والعمل به، وشارك في جميع الحروب الّتي قادها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حالات نادرة، كمعركة تبوك حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام أن يبقى في المدينة ويحافظ عليها، لأنّ المدينة كانت معرّضة للخطر، فأبقاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيها.
لكن في بقيّة الحروب أو أكثرها كـان مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. كان حاضراً إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الّذي هرب الجميع وفي أخطر وأحلك المواقف.
كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام لكنّه لا يجرؤ على الاعتراض على أعداء الله خوفاً من سطوتهم وتجبّرهم؟
إنّ الذين حاربهم أمير المؤمنين عليه السلام في أيام خلافته وقبل ذلك كانوا أعداءً للدين وكانت لديهم سلطة سياسيّة وعسكريّة، وكان لدى بعضهم قاعدة شعبيّة ونفوذ ويدّعون الإيمان والقداسة.
كان بعضهم مثل الخوارج شبيهين ببعض المتطرّفين المتظاهرين بالثوريّة، والذين لم يعترفوا بأحدٍ غيرهم، كالذين لم يعترفوا في بداية الثورة بالإمام كشخصٍ ثوريّ.
فأمير المؤمنين عليه السلام قد واجه أولئك وشتّتهم وقال إنّه لو لم يحاربهم لما تجرّأ أحد على محاربتهم.
هناك من يدّعون أنّ الإمام عليه السلام هو إمامهم ولكنّهم غير مستعدّين لأن يقولوا كلمة واحدة تزعج الاستكبار وأمريكا، وتزعج الّذين يظلمون اليوم مئات أضعاف ظلم المقتدرين الفسدة في صدر الإسلام، ويرتكبون من الظلم في يوم واحد ما يعادل الظلم الّذي ارتكبه أولئك في عدّة أعوام.
يقول هؤلاء إنّهم شيعة عليّ، وإنّه عليه السلام إمامهم!! فماذا يعني الإمام؟ هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام وهذه هي شموليّته، وطبعاً لا يمكن توضيح شموليّته بهذه الكلمات.
إنّنا مثل ذلك الرسّام الطفيليّ الّذي يريد أن يرسم وجهاً جميلاً لكنّه يرسم هيكلاً جامداً. إنّه عليه السلام أرفع كثيراً من هذا الكلام، إلّا أنّ هذه
الصورة الناقصة الّتي نرسمها أيّها الإخوة والأخوات جميلة ورفيعة وشاخصة إلى درجة أنّها تُحيّر الناس.
يجب علينا التحرّك في هذا الاتّجاه. وطبعاً لا يتوقّع أحد أن يصل حتّى إلى بعد فرسخ من مستوى أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذه حقيقة.
وقد قلت قبل عدّة أعوام في صلاة الجمعة: إنّنا لا نقدر أن نكون مثل أمير المؤمنين عليه السلام ، فكتب أحدهم إليَّ قائلاً: نعم لقد أَرحتم أنفسكم بهذا الكلام لأنّكم ليس بإمكانكم أن تكونوا كأمير المؤمنين عليه السلام. كلّا ليس الموضوع هذا، فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام نفسه في حديث له: “أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ”10. فهو في القمّة، تصوّروا قمّة عالية، علينا أن نصعد إليها، ولا نقول إنّنا لا نصل إليها، بل يجب التحرّك.