الرئيسية / الاسلام والحياة / “ومن يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْرًا كثِيرًا وما يذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبابِ”

“ومن يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْرًا كثِيرًا وما يذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبابِ”

إنّها الوثيقة الأخلاقيّة الجامعة، والتي حملها إلينا التراث من زمن الإمام الكاظم عليه السلام، وهي الوصيّة التي أوصى بها لصاحبه هشام بن الحكم. لقد تضمنت الوصيّة هذه كماً هائلاً من المضامين الثقافيّة المتنوّعة، والتي انطلقت من العقل، ودوره وتأثيره في بناء الأخلاق الإنسانيّة، وما يكمل به المرء حين يتّصف بالحسن منها.

  تركوا الذنوب

 

ثم انتقل الإمام عليه السلام لصفة أخرى من صفات أهل العقل وأولي الألباب فقال:

 

“يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض”.

 

فضول الدنيا هو ما زاد عن حاجة المرء فيها، والمراد من ترك هذا الفضول، الترك القلبي لا ترك التملك والحيازة، إذ من المعلوم أنّ التملك للكماليات وما يزيد عن حاجة الإنسان من المباحات، ولكن المراد ترك التعلّق القلبي الذي يجعل الإنسان منشغلاً كلياً عن آخرته بها. وترك الفضول القلبي من الدنيا، أمر ندبت إليه الكثير من الروايات التي سنأتي عليها في شرح المقطع اللاحق من الوصيّة.

 

وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.

 

7- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى- ج 2 ص 1562


وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.

 

وترك الذنوب هو التقوى التي وصفتها الآية الشريفة باللباس: “يا بنِي آدم قدْ أنزلْنا عليْكُمْ لِباسًا يُوارِي سوْءاتِكُمْ ورِيشًا ولِباسُ التّقْوى ذلِك خيْرٌ ذلِك مِنْ آياتِ اللهِ لعلّهُمْ يذّكّرُون”8.

 

وعن الإمام الباقر عليه السلامفي تفسير هذه الآية: “فأمّا اللباس فالثياب التي تلبسون، وأما الرياش فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى فالعفاف، لأن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عارياً من الثياب والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من الثياب، يقول: (ولباس التقوى ذلك خير) يقول: العفاف خير”9.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والريّ بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل”10.

 

فأهل التقوى أهل الوعي لما في التقوى من خير الدنيا والآخرة ومن تكامل للنفس الإنسانيّة.

 

 زهدوا في الدنيا

 

ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن أنّ أولي الألباب هم أهل الزهد في الدنيا فقال عليه السلام:

 

“يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته”.

 

  فما هو الزهد في الدنيا؟

 

يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام على هذا السؤال بما روي عنه: “الزهد بين كلمتين

 

8- الأعراف: 26

9- تفسير علي بن إبراهيم القمي ج1 ص 226

10- نهج البلاغة الخطبة 114


من القرآن، قال الله تعالى: “لِكيْلا تأْسوْا على ما فاتكُمْ ولا تفْرحُوا بِما آتاكُمْ”11 ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه”12.

 

وهو ترك التعلّق بمتاع الدنيا بحيث يصبح الشغل الشاغل والمقدم على سائر الأمور حتى الأخروية منها.

 

أمّا فضل الزهد فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “جُعل الخير كله في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا”13.

 

ويحصل الزهد في قلب المؤمن عندما يوقن أنّ الموت قادم لا محالة وأن الدنيا زائلة، لا مجرد المعرفة بل اليقين كما يرى نفسه في المرآة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: “يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا”14.

 

فالعاقل من يدرك زوال الدنيا، ويدرك أنّ التناول منها لا يشبع نهم الإنسان، وأنّه سيزداد عطشا كلّما شرب منها، ويعي قول الإمام الباقر عليه السلام : “مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ، كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً”15.

 

ولذلك ترك الدنيا وزهد فيها، ولم يتعلّق قلبه بها.

 

11- الحديد: من الآية23

12- الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 ه.ق.-ج 61 ص 19

13- الكليني – الكافي – دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الخامسة -ج 2 ص 128

14- الكليني – الكافي – دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الخامسة -ج 2 ص 131

15- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الخامسة -ج 2 ص 134


شاهد أيضاً

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر العربيّ

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر ...