الدرس الثاني: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى النصوص التي تدلّ على ضرورة الحكومة الإسلاميّّة.
2- أن يستدلّ على عدم تخصيص الحكومة بزمن دون آخر.
3- أن يتعرّف إلى الروايات الدالّة على ولاية الفقيه.
4- أن يجيب على الأسئلة المثارة حول مقبولة عمر بن حنظلة.
5- أن يستدلّ بمكاتبة إسحاق بن يعقوب.
تمهيد
تقدّم الدليل العقليّ على ولاية الفقيه، ويمكن الاستدلال على هذه الولاية أيضاً بالدليل النقليّ، وهناك عدّة أدلّة نقليّة نذكر منها:
الدّليل الأوّل: ضرورة وجود نظام إسلاميّ
ويتركّز على ضرورة قيام النظام الإسلاميّ, وذلك بملاحظة أحكام الإسلام, وهذا الدليل يتألّف من مقدّمات ثلاث:
الأولى: إنَّ الشّريعة الإسلاميّّة تتضمّن أحكاماً ترتبط بالفرد، كالوظائف العباديّة من صلاة وصيام وغيرها من العبادات، كما تتضمّن أحكاماً ترتبط بالجماعة وبالنظام العامّ كالحدود والديّات والقضاء والجهاد ونحوها.
الثانية: إنَّ هذه الأحكام – التي تتعلّق بالجماعة – تدلّ على أنَّ الشريعة المقدّسة قد بَنَتْ هذه الأحكام على أساس وجود ولاية الأمر كأمر مفروغ عنه مفروض وجوده شرعاً, حيث عمدت إلى تنظيمها وتقنينها ووضع أهدافها وأحكامها الشرعيّة الخاصّة, وهكذا في ما يرتبط بالنظام العامّ.
الثالثة: هذه الأحكام العامّة ثابتة في كلّ زمان وعلى مرّ العصور، ولو لم يكن الأمر كذلك، كان من اللّازم تقييد تلك الأحكام بزمان معيّن، وهو زمان حكومة المعصوم، ما يعني تعطيل هذه الأحكام الاجتماعيّّة في زمان
غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهذا خلاف الواقع، لأنّ المتسالم عليه بين الفقهاء، والمعروف عند المتشرّعة أنّه لا يمكن تعطيل هذه الأحكام الإلهيّة، بل هي باقية في كلّ عصر إلى يوم القيامة، وهذا ما يستلزم وجود حكومة إسلاميّة تسير على هداها وتطبّقها.
ومن المفيد الإشارة إلى أنّ ولاية الحكّام الجائرين والطغاة الفاسقين ليست هي التي يناط بها تطبيق تلك الأفكار، ولا المأمول منها القيام بها، للنهي عن تولّيهم والركون إليهم، وهذا يكفي في إثبات ولاية الفقيه.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنَّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُعتبر من الأدلّة الواضحة على ضرورة قيام الحكومة الإسلاميّّة, حيث إنَّ هذه الحكومة بكامل سلطاتها تُعتبر المصداق الأكمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبمقتضى أدلّة الأمر بالمعروف يجب علينا تحقيق مصاديقه وعناصره، ومن أوضح هذه المصاديق إقامة أحكام هذا الدين وحدوده وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، ورفع راية الإسلام خفّاقةً عزيزة.
كذلك بمقتضى أدلّة النهي عن المنكر، يجب علينا منع تحقيق مصاديقه وعناصره، من الجور والظلم والفساد في الأرض والخوض في الدماء وتضييع الحقوق وطمس معالم الدين ومنع قيام سلطة الظالمين.
وهذا يستلزم بشكل واضح وبيّن إقامة حكومة إسلاميّة، يكون على رأسها الفقيه الجامع للشرائط، لأنّه الأعرف بتحقيق الأهداف، من إقامة أحكام الدين، وتحقيق العدل، ومنع الظلم والفساد بما يوافق الشريعة الإسلاميّّة.
الدليل الثالث: الروايات الخاصّة
هناك العديد من الروايات والنّصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام، والتي يُمكننا الاستدلال بها على ولاية الفقيه في عصر الغيبة، ومنها:
أوّلاً: مقبولة عمر بن حنظلة:
أ- النصّ:
عن عمر بن حنظلة أنّه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟
قال عليه السلام: “من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل، فإنَّما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المَنهيّ عنه، وما حُكم له به فإنّما يُأخذ سحتاً1 ، وإن كان حقّه ثابتاً له، لأنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يُكفر به، قال الله عزّ وجلّ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾2.
قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟
قال: “ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و عرف حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنَّما بحكم الله استخفَّ، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله”3 .
ب – السند:
هذه الرواية تلقّاها الفقهاء قديماً، وحديثاً بالقبول، لذلك عبّروا عنها بالمقبولة، وهذا يعني اعتمادهم عليها بعد تماميّة الدلالة.
1- السحت: الحرام.
2- سورة النساء: 60.
3- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 101، ص 261.
ج – دلالتها:
إنًّ عبارة “قد جعلته عليكم حاكماًً” تدلّ على أنَّ من اجتمعت فيه الصفات الواردة في النّص “روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا” قد نصّبه الإمام عليه السلام بالنّصب العامّ لمختلف شؤون الحكومة وتولّي الأمر.
ومن تلك الأمور التي تندرج تحت عنوان الحكومة وتولّي الأمر: القضاء والفصل في النزاعات والخصومات، وصلاحيّة تنفيذ الحكم القضائيّ الذي يُصدره؛ وذلك لأنَّ الإمام عليه السلام حرّم ردّ حكم من نصّبه ” فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ، وعلينا ردّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله “، وعليه يلزم القبول بحكم الحاكم المنصوب من قِبله عليه السلام، وبالتالي لهذا الحاكم الفقيه الولاية لتنفيذ الحكم القضائيّ الذي أصدره.
أسئلة وردود حول هذه الرواية:
السؤال الأوّل: إنَّ الاستفهام الوارد في الرواية كان عن الحالات التي يحصل فيها النـزاع والتّخاصم، فالرواية خاصّة بمثل هذه الموارد، فهذا النصّ ورد في مورد خاصّ وعليه لا يمكن إثبات ولاية الفقيه من خلاله؟
والجواب: إنَّ المورد وإن كان مورد تنازع، وهو يستدعي نصب القاضي، إلّا أنّ موضوع كلام الإمام عليه السلامفي صدر الرواية كان حول الحكّام الظالمين والجائرين، الذين كانت بيدهم أمور الناس، وليس فقط خصوص القضاء وفصل النّزاعات، فنهى الإمام عليه السلام عن الرجوع إلى هؤلاء الحكّام الظالمين والتحاكم اليهم.
وفي المقابل نصّب الإمام عليه السلام من يحوز صفات محدّدة وجعله منصوباً للحكومة ومتولّياً الحاكميّة “فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماًَ”، ومن جملة صلاحيّاته – كحاكم – القضاء، وفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام القضائيّة، فيظهر بوضوح أنّ الإمام عليه السلام أعطى للفقيه الجامع للشرائط الولاية، بنحو أشمل من منصب القضاء.
السؤال الثاني:قد يقال إنّّ الرواية صادرة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهذا يعني أنّها ناظرة إلى زمان الإمام عليه السلام، فلا يمكن الاعتماد عليها في زمان الغيبة لإثبات الرجوع إلى الفقيه الحاكم؟
وجوابه: إنَّ الذي دعا الإمام الصادق عليه السلام إلى نصب الفقهاء في عصره هو عدم تمكّن جميع الشيعة في أقطار الأرض من الوصول إليه والسؤال منه، وهذا الأمر نفسه – عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه السلام – يدعو للرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة، بل يثبت الرجوع إلى الفقهاء بشكل أولى في زمن الغيبة.
السؤال الثالث: إنَّ النّصب في هذه الرواية كان من قِبل الإمام الصادق عليه السلام، وبعد وفاته عليه السلام ينعزل المنصوب من قِبله، ولكي يبقى من نُصّـب في منصبه نحتاج إلى قيام دليل جديد على نصبه من قِبل الإمام اللّاحق.
ويُجاب عليه: بأنّ النصب يستمرّ حتّى لو توفّي الإمام عليه السلام ما لم يُسقطه الإمام اللّاحق، وحيث لم يُعلم إسقاط النصب وإلغاء الصلاحيّة من قِبل الإمام اللّاحق فالنصب باقٍ ومستمرّ، لا سيّما وأنَّ النصب من قِبل الإمام الصادق عليه السلام لم يكن لشخص باسمه، بل كان لعنوان الفقهاء الذين اجتمعت فيهم شرائط وصفات محدّدة.
ثانياً: مكاتبة إسحاق بن يعقوب:
أ – النصّ:
قال إسحاق بن يعقوب: سألت محمّد بن عثمان العمريّ رحمه الله (سفير الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن يُوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكِلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: “… وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا
فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله … “4 .
ب – السند:
هذه الرواية عُبِّر عنها بالمكاتبة، وهي كالاستفتاء الخطّي في هذا الزمن، حيث كان الفقهاء يبعثون برسائلهم إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف عبر أحد سفرائه، ويأتي الجواب وعليه ختم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقد أورد هذه المكاتبة أجلّة الفقهاء، واعتمدوا عليها في الاستدلال.
ج – دلالتها:
هذه الرواية أوضح من سابقتها في الدلالة على ولاية الفقيه، لأنَّ الحوادث الواقعة المراد بها هنا: الأمور المستجدّة التي يرجع فيها الناس عادة إلى أئمّتهم ورؤسائهم، وليس الرجوع من أجل معرفة الأحكام فقط، فالرجوع من أجل معرفة الأحكام كان جارياً ومعروفاً، وليس بحاجة إلى استفهام وسؤال، فمن المستبعد جدّاً أن يكون السؤال عن شيء واضح، إنَّما السؤال إلى من يُرْجَع في الأمور المستجدّة والحادثة.
كما أنّ المراد من رواة الحديث ليس مجرّد نقل الرواية والتحديث، وإنّما المراد “بالرواة” هنا الفقهاء الذين يروون الحديث ويطبّقونه ويستنبطون منه الأحكام, لأنّهم القادرون على إعطاء الأحكام في الحوادث الواقعة والمستجدّة والتعاطي معها.
أمّا قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: “فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله” يستفاد منه أنَّ معنى الحجّة واحد، وذلك لورودها ضمن سياق واحد, فكما أنّ الأئمّة عليهم السلام حجّة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم، فكذلك الفقهاء هم حجّة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم باعتبارهم رواةً للأحاديث بالمعنى الذي ذكرناه.
4- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 35، ص 180.
خلاصة
يمكن الإستدلال على ولاية الفقيه بالدليل النقليّ وقد ذُكرت عدّة أدلّة نقليّة عليها:
الدليل الأوّل: ضرورة وجود نظامٍ إسلاميّ، ببيان: أنّ في الإسلام أحكاماً تتعلّق بالجماعة والنظام العامّ، وهي تدلّ على ضرورة وجود وليّّ للأمر يطبّق هذه الأحكام، وهذه الأحكام العامّة مطلقة وغير مقيّدة بزمانٍ دون زمان، وهذا يعني ضرورة وجود حكومة إسلاميّة تسير على هدى هذه الأحكام وتطبّقها.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ الحكومة الإسلاميّّة بكامل سلطاتها تُعتبر المصداق الأكمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدليل الثالث: الروايات الخاصّة؛ كمقبولة عمر بن حنظلة، التي عبّرت “قد جعلته عليكم حاكماً”، ومكاتبة إسحاق بن يعقوب التي عبّرت “وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله”.
الشيخ الحلبيّ (347-447 هـ): يقول قدس سره في باب القضاء: “تنفيذ الأحكام الشرعيّّة والحُكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمّة عليهم السلام المختصّة بهم دون من عداهم ممّن لم يؤهّلوه لذلك, فإن تعذّر تنفيذها بهم عليهم السلام وبالمأهول لها من قِبَلِهم لأحد الأسباب لم يَجُز لغير شيعتهم تولّي ذلك ولا التحاكم إليه ولا التوصل بحكمه إلى الحقّ ولا تقليده الحكم من الاختيار, ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته, وهي: العلم بالحقّ في الحكم المردود إليه, والتمكّن من إمضائه على
وجهه, واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة، وظهور العدالة والورع والتديّن بالحكم، والقدرة على القيام به، ووضعه في مواضعه… فهو نائب عن وليّ الأمر عليه السلام في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه عليهم السلام لمن كان بصفته في ذلك, ولا يحلّ له القعود عنه”5 .
للمطالعة
ولاية الفقيه ولاية الله وحاكميّته
يصطلح القرآن الكريم على كلّ ولاية لغير الله بالطاغوت. ويؤكِّد أنَّ من لا يخضع لولاية الله وحاكميّته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميّته، فما هو الطاغوت؟
الطاغوت مشتقّ من مادّة الطغيان، والطغيان هو التعدّي والخروج عن الحدود الطبيعيّة والفطريّة للإنسان، فلو خرج الإنسان – الذي خُلق ليصل إلى كماله الممكن – عن هذا الهدف فهو طاغوت.
والطاغوت قد يكون ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه، ويدعوهم إلى الكسل والتواني والخمول وطلب العافية، ويعمل على منعهم من طاعة أمر الله ويدعوهم إلى ارتكاب المعصية، ولذلك يجب على الإنسان أن يعيش وفقاً لرسالة الله ودينه، وأن يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة ليجعل وجوده مثمراً ومنتجاً، وكلّ دافع يتنافى مع جديّة الإنسان وجهاده وكدحه فهو الطاغوت.
قد يتوهّم بعض الناس أنَّ الطاغوت إسماً لصنم معيّن، صحيح أنّه قد يكون إسماً لصنم، ولكنّه يتجلّى بأشكال متعدّدة، فقد يكون الإنسان نفسه صنماً، وقد يطلق على ثروته وماله، وقد يطلق على حياته المتراخية والمترفة، وكذلك
5- الحلبيّ، أبو الصلاح، كتاب الكافيّ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ(ع) العامّة، أصفهان، ص 421.
أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كلّ ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضّة أو النّظام الاجتماعيّّ أو القانون. وعليه ليس الطاغوت اسماً لشيء محدّد خاصّ. والذي يُستنبط من القرآن الكريم أنَّ الطاغوت مقامٌ فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبّارين والرّهبان. وهذا بحث غير بحثنا ولسنا بصدد الحديث عنه، وعلى هذا فكلّ من يخرج عن ولاية الله وحاكميّته فلا بدَّّ أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان.
الخامنئي, علي , الإمامة والولاية, 92-93(بتصرف)