الرئيسية / الاسلام والحياة / “ومن يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْرًا كثِيرًا وما يذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبابِ”

“ومن يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْرًا كثِيرًا وما يذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبابِ”

إنّها الوثيقة الأخلاقيّة الجامعة، والتي حملها إلينا التراث من زمن الإمام الكاظم عليه السلام، وهي الوصيّة التي أوصى بها لصاحبه هشام بن الحكم. لقد تضمنت الوصيّة هذه كماً هائلاً من المضامين الثقافيّة المتنوّعة، والتي انطلقت من العقل، ودوره وتأثيره في بناء الأخلاق الإنسانيّة، وما يكمل به المرء حين يتّصف بالحسن منها.

يا هشام:

 

“إنّ لقمان قال لابنه: تواضع الحقّّ تكن أعقل الناس.

 

يا هشام … ولكل شيء مطيّة، ومطيّة العاقل التواضع. وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

 

يا هشام ما من عبد إلا وملك آخذ بناصيته فلا يتواضع إلا رفعه الله، ولا يتعاظم إلا وضعه الله.

 

يا هشام مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة”.

 

  تمهيد

 

تحدّث الإمام عليه السلام في هذه الفقرات عن التواضع، ونلاحظ أنّه تحدّث عن أنواع عدة من التواضع، ففي الفقرة الأولى تحدث عن التواضع الحقّّ، وفي الثانية عن التواضع بشكل عام، بما يشمل ذلك التواضع بين الناس، وسنتحدث في هذا الدرس عن التواضع لله، وما يحقق التواضع في نفس المؤمن، وما جاء في ذلك من كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته عليهم السلام.

 


  ما هو التواضع؟

 

هو انكسار للنفس يمنعها من أن ترى لذاتها مزيةً على الغير، وتُلزم المرء أفعالاً وأقوالاً موجبةً لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر1.

هكذا عرّف علماء الأخلاق التواضع، ويلاحظ أنه لا يجري الحديث عن فضل التواضع إلا ويجري الحديث عما يقابل التواضع أي النقص وهو التكبر الذي يعد من أخطر العيوب الأخلاقية. وبنظرة سريعة إلى كتاب الله تعالى يمكن إدراك خطر هذه الآفة الخلقية، وما توعد به الله تعالى المتكبرين من عذاب أليم.

أما التواضع فقد جاءت الآيات والروايات الكثيرة المادحة له والتي عدته من أرقى الأخلاق، يقول الله تعالى:

 

“يا أيُّها الّذِين آمنُواْ من يرْتدّ مِنكُمْ عن دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللهُ بِقوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونهُ أذِلّةٍ على الْمُؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين يُجاهِدُون فِي سبِيلِ اللهِ ولا يخافُون لوْمة لآئِمٍ ذلِك فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ من يشاء واللهُ واسِعٌ علِيمٌ”2.

 

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “أشرف الخلائق، التواضع والحلم ولين الجانب”3.

 

وفي رواية أخرى اعتبر الإمام الصادق عليه السلام التواضع دليلاً على كمال العقل، فعنه عليه السلام: “كمال العقل في ثلاثة: التواضع لله، وحسن اليقين، والصمت إلا من خير”4.

 

1- جامع السعادات – محمد مهدي النراقي – ج 1 ص 311.

2- المائدة: 54

3- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 1 ص 808

4- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 3 ص 2050


التواضع والعبادة

 

التواضع عبادة بحد ذاته لأنه مما أمر الله تعالى به، ولأنه يتضمن الشعور بضعة النفس، وهذا هو نفس الشعور الذي يشعر به الإنسان في عبادته ووقوفه بين يدي الله تعالى، فعن الإمام علي عليه السلام: “عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة”5.

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع”6.

 

ولهذا فإن المواظبة على العبادة، مما يورث صفة التواضع. والمراد بالمواظبة لا شكلاً بل أداء بما يحقق الخشوع والشعور بالعبودية لله تعالى. ومن المعروف أن المنكرين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عابوا دينه لأنه يساوي بينهم وبين عبيدهم، واستنكر آخرون أن يعفروا جباههم في التراب حين الصلاة، معتبرين أن في ذلك كسراً لكبريائهم، وتحطيماً لجبروتهم، ومن هنا أشار أهل البيت عليهم السلام لهذا المعنى، فعن الإمام علي عليه السلام في بيان فلسفة العبادات: ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: “أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا موسى إني قلبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب، أو قال: على الأرض”7.

 

وقد سأل هشام بن الحكم إمامه الصادق عليه السلام عن علة السجود على الأرض أو ما لا يؤكل من نباتها فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: “لأنّ السجود

 

5- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 4 ص 3554

6- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 4 ص 3554

7- الكليني – الكافي – دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الخامسة – ج 2 ص 123


خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّ وجلّ “8.

 

شاهد أيضاً

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر العربيّ

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر ...