(قراءة في كتاب: الوصول، للكاتب السيد عبد القدوس الأمين، عن سيرة السيدة أم ياسر زوجة الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي رضوان الله عليه)
الحياة المادّية للسّيد عبّاس وزوجته..
في بداية حياته الزّوجية، كان السيد عباس الموسوي يخاف على زوجته من صعوبة العيش وقساوته، ويداريها كأنها مدلّلته الصغيرة، حتى عرف أنّها ترى ما يرى، وتفكّر مثلما يفكر.
ولم يشعر أحدٌ من زوار السيّد بتلك الصعوبة، فقد تضع أم ياسر الإفطار ثلاث مرات وأكثر، وكذلك العشاء والغداء، “إم ياسر بإيدها في برَكة”. وحين يشتدّ الوضع ضيقاً، يضع المال في تصرفها اعتماداً على قدرتها في التدبير.
وحدث ذات يوم جمعة، فيما السيّد في البيت، وليس معه سوى قطعتي نقودٍ، دينارٌ وربع، وراتب الحوزة أمامه أيامٌ ليصل، طرق الباب فقيرٌ من الذين اعتادوا على طرق باب السّيد عباس، فأعطاه السيد ربع الدينار الذي كان معه. وبعد قليلٍ طرق الباب فقيرٌ آخر. وقفت “أم ياسر” تنتظر ماذا سيفعل السيد الذي لم يتبقّ معه سوى دينار واحد، وعندما ذهب الفقير سألته:
– هل أعطيته كل الدينار؟
ضحك السيد وقال:
– شو رأيك؟ هل أعطيه إياه وأطلب منه أن يصرفه ويرُجع الباقي؟
وضحكا معاً. تبعت ذلك أيامٌ والطعام من حواضر البيت، والسير على الأقدام لمتابعة الدّرس والتّدريس.
ويوماً ما في شهر رمضان، أعطته ما بقي معها ليجلب خبزاً والقليل من البطاطا والخضار، وعندما رجع ركضت إليه لتحمل الأغراض، وتعجّل بتحضير الإفطار، فإذا بيديه فارغتان.
نظرت إليه، فرأته يبتسم بصمت، ضحكت وقالت:
– السوق مغلق؟
رفع حاجبيه في إشارة للنفي.
– حدا عازمنا عالإفطار؟!
هزّ برأسه نافياً.
– ضيّعتهن أكيد!
– لا أبداً.. عملتهن عشر أضعاف.
فعلمت أنّه تصدّق بالمال..
– شو بعد في بالبيت؟
– ما عنّا غير خبز يابس كنت بدي اعمل عليهن فتوش..
– طيّب، أمير المؤمنين عازمنا على فتوش زعتر ماي.. شو رأيك؟
– ليش في أحلى من مائدة أمير المؤمنين؟!
وفي هذه اللحظات، طُرق الباب. خافت أم ياسر أن يكون الطّارق فقيراً لا يملك السّيّد ما يعطيه إياه، لكنّها سرعان ما سمعت صوتاً يقول:
– افتح درفة الباب الثاني يا سيّد.
عندما رحل الضيف، قدِمت أم ياسر لترى سفرة كبيرة عليها ما لذّ وطاب من الطعام..
– أمير المؤمنين ما قبل تكون سفرته أقل من هيك..
شرعت أم ياسر بوضع ما تيّسر من الطعام لطلّاب السيد، فدمعت عيناه، وقبّلها في جبينها قائلاً:
– جازاكِ الله خيراً..
مع الشهيدة بنت الهدى..
كان لمنزل السّيد محمد باقر الصّدر أثرٌ كبيرٌ في مسيرة الشّهيدة أم ياسر وزوجها السّيد عبّاس. فالبيت المتواضع ذاك، ضمّ بوقارٍ وهيبةٍ، عالماً دينياً، مع أمه المقعدة وزوجته (أخت السّيد موسى الصدر)، والأخت العالمة المعلّمة بنت الهدى التي فرحت بشخصية أم ياسر وبثقافتها وعلمها واتزانها.
وعندما تحدّثتا عن لبنان، قالت بنت الهدى:
– من الآن اهتمّي بشؤون الناس وشجونهم، بمشاكلهم والحلول. علّمي النّاس يا أم ياسر. أغنيهم بالعلم لتعينهم المعرفة على أمور دنياهم وآخرتهم.
ومنذ ذلك النّهار بدأت أم ياسر تتابع بنت الهدى وتتعلّم من تلك الناشطة اجتماعياً، وتبنّت فكرة التبليغ للنساء، والاهتمام بشؤونهن.
ورأت أم ياسر كيف خرجت بنت الهدى الى الصحن الشريف بعد اعتقال أخيها السيد الصدر، وكيف حرّضت الناس ودعتهم الى التّظاهر والاحتجاج، فاجتمع الناس وارتفع الصوت، وأخرجه سجّانوه خائفين.
وبعد الإفراج عن السيّد الصدر، بدأت السلطات العراقية بالتضييق على الحوزة العلمية، وهجّرت الجالية الإيرانية بشكل فجائي، ما أحدث مآسيَ اجتماعية، ساهمت أم ياسر في التخفيف منها قدر ما تستطيع، وإعانة العائلات التي وجدت نفسها فجأةً من دون معيل.
واشتدّ الضّغط على منزل السيد الصّدر، ورأت أم ياسر كيف تفعل السياسة بالناس، وكيف بدأت الحشود تبتعد عن ذلك المنزل، دون أن تكفّ هي عن زيارتهم متحصّنةً بالنّقاب. فتعلّمت من تلك الأحداث الخوض في السّياسة ومتابعة مجرياتها، خاصة في لبنان ومحيطه عبر السيّد عباس.
أم ياسر تعود الى لبنان
وصل ضغط القوات العراقية إلى زيارة الإمام الحسين(ع) في مناسبة الأربعين، حين اعتادت الجاليات على الذهاب الى مقام الإمام مشياً على الأقدام، ومن بينهم السّيّد عباس.
وسرعان ما أصبحت النجف منطقةً لقوّات نظام صدّام، فدوهمت منازل الشيوخ واعتقل أعداد منهم، فيما كان السّيد عباس في لبنان، في إحدى رحلات التبليغ التي كان يقوم بها.
خافت أم ياسر أن تطال منزلها المداهمات، فحفرت حفرة في حديقة المنزل، ودفنت فيها الأوراق والرسائل، وكتب السّيد الصدر، وهي ترى كيف يحوم مخابرات النظام حول بيتها، فاقتصر خروجها منه على الضرورة فقط.
في تلك الأيام عرفت أم ياسر أنّها لا تخاف على نفسها وصغيريها، إنما على زوجها السيّد عباس، حتى جاء الأمر إليها من السيد الصدر أن تبلّغ زوجها بضرورة البقاء في لبنان، والقيام بالتبليغ هناك، دون المجازفة بالعودة، إلا حين يطلب منه السيد ذلك.
ثمّ خاف المقرّبون على أم ياسر، بسبب علاقتها الوطيدة ببنت الهدى، فنصحوها بالسفر الى لبنان، وقاموا بتهريبها وتهريب أمتعتها على دفعات.
التبليغ الرّسالي.. مهمة السيّد وزوجته..
عندما استقرّ الأمر بعائلة “آل ياسر” في لبنان، بدأت مرحلةٌ تأسيسيّة جديدةٌ أرادها السيد عبّاس أرضيةً لمجتمعٍ إسلاميٍّ واعٍ. وما كان هذا الأمر ليتمّ دون حوزةٍ بمعايير عاليةٍ، ينطلق من خلالها الرجال الى المجتمع كافّةً.
ولم يكن الأمر سهلاً، في مجتمعٍ تحكمه الوسائط والعصبيّات، يقبع تحت جنح الظّلام، لكنّ السيّد لم ييأس، بتشجيعٍ من زوجته، ومَن عرف أهمية هذا المشروع، وخاصّة السّيد موسى الصّدر، رجل الدين الذي كان يتابع السّيد في كل الشؤون.
وبعد دعمٍ من الإمام، افتتح السيد عبّاس حوزةً علميّة، وراح هو وتلاميذه في الحوزة يقومون بحملات التبليغ في القرى، فيعرّفون الناس إلى الإسلام، ويزرعون فيهم الوعي لإدارة حياتهم الفكرية والاجتماعية بالشّكل الصحيح.
– وأنا كمان بدّي بلّغ معكن.
– أهلاً وسهلاً. بس رح تتعبي كتير هيك يا أم ياسر..
– بس مجتمعنا بحاجة. أنا و”أم زهراء” رح نصير نروح معكن عالضيع. النسوان بحاجة للعلوم. وأكتر من الرجال كمان.
وهكذا، بدأت أم ياسر وصديقتها بإقامة الندوات في الحسينيات والبيوت. يأتي بعض النسوة لـ”تتعرف” والبعض لتسخر، ومع الوقت صار العدد يزداد. يُقبلن بلهفةٍ وشوق، يتجمّعن حول المرأة التي تستمع الى مشاكلهنّ، تقدم الحلول، تشرح عن الدين الذي لا يعرفن عنه الكثير، تتكلم عن الحجاب، وتجيب عن كل أسئلتهنَ بابتسامة لا يقلل منها تعبٌ ولا حملٌ ولا بُعد مسافات.
– نحنا ناقصنا حوزة يا سيّد. حوزة للنسوان. بحاجة لعدد يساعدنا عشان نبلّغ وننشر الإسلام والمفاهيم.
وهكذا، كانت حوزةٌ للنساء، بإشراف ثلّة من العلماء.
وفي الحوزة تمّ إنشاء مسكنٍ داخليًّ للفتيات. كانت أم ياسر تهتم بهنّ، كأنّ فتياتٍ جديدات انضممن الى عدد أولادها.
هكذا بدأت أم ياسر بصناعة التغيير، انطلاقاً من قناعتها بأن “المرأة نصف المجتمع”.