ولو سألنا عن السبب في كون الأنبياء أكثر تأثيراً في بني البشر من الحكماء والفلاسفة، لربّما كان الجواب هو أنّ الحكماء كانوا منظّرين فحسب ولم يُعايشوا الناس ويُخالطوهم على الغالب، بخلاف الأنبياء فإنّهم كانوا يتحرّكون مع الناس ويعيشون معهم في جميع شؤونهم حتّى قال بعضهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1609.
9- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 97، ص 287.
10- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 3، ص 70.
11- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 77.
12- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 1، ص 116.
13- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 245.
14- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 372.
ويمشي في الأسواق. ففي السلم والحرب وفي الرخاء والبلاء، وفي السرّاء والضرّاء، بل وفي جميع شؤون الحياة كان النبيّ يتحرّك مع الناس ليعيش معهم كلّ المفارقات والمفاصل في الحياة والاختلافات والنزاعات ليبيّن لهم ميدانياً ومن قلب الواقعة والميدان، أين الحقّ من الباطل، وأين الصواب من الخطأ، وأين العلم من الجهل، وأين السداد من الاشتباه، يُعطي لكلّ واقعة حكمها، ولربما دفع أثماناً لوجوده في قلب الحدث، ولكن كان ذلك يصبّ في خانة التضحيات في سبيل الرسالة. ففيما ينقل عن نبيّ الله نوح عليه السلام أنّ قومه كانوا يتعمّدون عدم الاستماع إليه وكان يصل بهم التعسّف والتعدّي على حرمته المقدّسة أنّهم يضربونه حتّى يُغشى عليه ومع ذلك عندما كان يستفيق كان يأتيهم ويتابع مسيرته الرسالية بينهم. والله تعالى يبيّن أنّ إحد الأمور الّتي كانوا يعجبون منها أنّ النبيّ كيف يكون رجلاً منهم، قال تعالى في سياق الكلام عن نبيّ الله نوح عليه السلام: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ 15.
فهذا يُبيّن شدّة لصوق الأنبياء الكرام بالمرسَل إليهم وقربهم منهم.
بخلاف الفلاسفة والحكماء فإنّهم في الأعمّ الأغلب منظِّرون للحقائق التجريدية عن بُعد، ولم يلتحموا بالواقع المعاش للناس ليكونوا متحرّكين عملياً أمامهم لكي يؤثِّروا فيهم من الناحية التربوية، فلم يكونوا أسوة عملية مرأية لكلّ أحد، ولهذا كان الأنبياء مؤثّرين في الناس على صعيد التهذيب والتربية والتأديب والتزكية.
فالإنسان يتأثّر بعملٍ أو موقفٍ أمامه من أسوة عملية أكثر من تأثّره بسيلٍ من الكلمات، ولهذا يؤكّد القرآن الكريم على أن يكون الرسول من جنس المرسَل إليهم فيردّ إشكال من قال إنّ النبيّ ينبغي أن يكون مَلَكاً من الملائكة بقوله تعالى:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ 16. فكيف يتأسّى
15- سورة الأعراف، الآية: 63.
16- سورة الأنعام، الآية: 9.
الناس بمَلَك؟ فإنّهم سيقولون هو مَلَك يمتلك من الطاقات ما لا نمتلكه فكيف يكون قدوة لنا؟ فلا بُدّ أن يكون رجلاً مماثلاً في التكوين وفي الشعور والظروف حتّى يقول المتأسّي هو مثلي ففعل كذا ويُمكن لي أن أقتفي أثره وأمشي على خطاه وأقتدي به.