الله تعالى هو المنتهى
ومن جانبٍ آخر أيضاً فإنّ العقل أثناء بحثه وتفكّره سوف يكتشف أمراً في غاية الأهميّة, وهو أنّ لهذه الميول خاصيّة ملفتة، بالإضافة إلى وجودها عند الجميع، وهذه الخاصيّة تتعلّق بعدم محدوديّتها. فميل الإنسان للمعرفة والعلم ليس له حدّ، بل كلّما وصل الإنسان إلى مرتبةٍ من المعرفة تراه يطلب مرتبةً أخرى أعلى وأرقى. والكلام نفسه بالنسبة إلى سعي الإنسان لامتلاك القدرة والسيطرة، فإنّه لا يكتفي بما تصل إليه يداه بل هو في سعيٍ دائمٍ نحو قدرة أعلى وأكمل. وحب الإنسان وعشقه هو بدوره لا يعرف الشبع. فالعاطفة الجيّاشة التي تنبع من القلب الواله تتوجّه دائماً نحو المحبوب الذي ترى فيه الكمال والسعادة، وإذا ما وجد هذا القلب محبوباً أكمل فإنّه سينتقل إليه. فالقلب الإنسانيّ يحبّ ويعشق الكمال ويطلب على الدوام ما هو أكمل وأفضل، وسيبقى هذا القلب يتنقل من كاملٍ إلى ما هو أكمل منه، ومن جميلٍ إلى ما هو أجمل منه وهكذا… وهذه هي حقيقة وسرّ هذه الميول الفطريّة التي أودعها الله تعالى فينا، فهي ميولٌ ورغباتٌ مطلقة لا تقف عند حدّ ولا تعرف الشبع أبداً. والإنسان يجد في نفسه الرغبة بالمزيد دائماً رغم حصوله على الكثير.
في وصيته يقول الإمام الخميني قدس سره مخاطباً ابنه السيد أحمد:
“إعلم أنّ في الإنسان ـ إن لم نقل في كلّ موجود ـ حباً فطرياً للكمال المطلق وللوصول إلى الكمال المطلق. وهذا الحب مما يستحيل أن يفارق الإنسان كلياً. كما أنّ الكمال المطلق يستحيل أن يتكرّر أو يتثنّى. فالكمال المطلق هو الحق جلّ وعلا. والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم ولا يعلمون. فهم محجوبون بحجب الظلام والنور. لهذا فهم يتوهمون أنّهم يطلبون شيئاً آخر غيره. ولذا تراهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أي جمال أو قدرة أو مكانة. فهم يشعرون أنّهم لا يجدون في كل ذلك ضالّتهم المنشودة.
فالمقتدرون ومن يمتلك القدرات الكبرى هم في سعيٍ دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة. وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه، وهم يشعرون دوماً أنّهم لم يجدوا ضالتهم وفي الحقيقة هم غافلون عنها.
ولو أعطي الساعون إلى القدرة والسلطة التصرّف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرّات، بل وكل ما فوقها، ثّم قيل لهم: إنّ هناك قدرة فوق القدرة التي تملكونها أو أن هناك عالماً أو عوالم أخرى فوق هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنّهم من المستحيل أن لا يتمنّوا ذلك. بل إنّه من المحتم أن يقولوا بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضاً! وهكذا طالب العلم، فهو إن ظنّ أنّ هناك مرتبة أخرى – غير ما بلغه – فإنّ فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي هذه القدرة أو يا ليت لي سعة من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!” .
فإذا كان الله تعالى خلقنا طالبين وعاشقين للكمال الذي لا حد له فهل يعقل أن يحرمنا منه أو يمنعنا عنه؟! إنّ هذا المنع يناقض صفات الخالق الرحيم. وعليه، فإنّ وجود هذه الرغبات والميول نحو الكمال الذي لا حدّ له، لهو دليلٌ واضح على أن الكمال اللامتناهي هو الغاية التي ينبغي أن نسعى إليها، وقد خلقنا الله تعالى لذلك.
إذاً، في أعماق كلّ إنسان عشقٌ فطريّ للكمال الذي لا حدّ له، أودعه الله فينا لكي يكون لنا هادياً كلّما ظننّا أننا بلغنا مقصدنا. إن هذا الشوق إذا سيطر على الإنسان لن يرضى معه بجميع لذّات الدنيا وكمالاتها مهما بلغت! لأنّها محدودة، وهو طالبٌ للكمال اللامحدود، طالب لله عزّ وجلّ ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ .