قال تعالى: (الاَْخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)( [322]).
«الاخلاّء: جمع خليل وهو الصديق، حيث يرفع خلّة صديقه وحاجته، والظاهر أنّ المراد بالاخلاّء المطلق الشامل للمخالّه والتحابّ في الله، كما في مخالّة المتّقين أهل الآخرة، والمخالّة في غيره كما في مخالّة أهل الدنيا، فاستثناء المتّقين متّصل.
والوجه في عداوة الاخلاّء غير المتّقين، أنّ من لوازم المخالّة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أموره، فإذا كانت لغير وجه الله، كان فيها الاعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد، كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة: (يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)( [323])، وأمّا الاخلاّء من المتّقين فإنّ مخالّتهم تتأكّد وتنفعهم يومئذ»( [324]).
عن سعد بن معاذ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «إذا كان يوم القيامة، انقطعت الارحام، وقلّت الانساب، وذهبت الاخوّة ، إلاّ الاخوّة في الله، وذلك قوله: (الاَْخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)»( [325]).
عن الحارث عن الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في خليلين مؤمنين وخليلين كافرين: «فأمّا الخليلان المؤمنان فتخالاّ حياتهما في طاعة الله تبارك وتعالى، وتباذلا عليها وتوادّا عليها، فمات أحدهما قبل صاحبه، فأراه الله منزله في الجنّة، يشفع لصاحبه. فقال: يا ربّ خليلي فلان. كان يأمرني بطاعتك، ويعينني عليها، وينهاني عن معصيتك، فثبّته على ما ثبّتني عليه من الهدى، حتى تُريه ما أريتني، فيستجيب الله له حتى يلتقيان عند الله عزّوجلّ، فيقول كلّ واحد لصاحبه، جزاك الله من خليل خيراً، كنتَ تأمرني بطاعة الله، وتنهاني عن معصيته.
وأمّا الكافران، فتخالاّ بمعصية الله وتبادلا عليها، وتوادّا عليها، فمات أحدهما قبل صاحبه، فأراه الله تعالى منزله في النار. فقال: ياربّ خليلي فلان، كان يأمرني بمعصيتك، وينهاني عن طاعتك، فثبّته على ما ثبّتني عليه من المعاصي، حتى تُريه ما أريتني من العذاب، فيلتقيان عند الله يوم القيامة، يقول كلّ واحد منهما لصاحبه: جزاك عنّي من خليل شرّاً، كنت تأمرني بمعصية الله، وتنهاني عن طاعته، قال: ثمّ قرأ: (الاَْخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)»( [326]).
قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً)( [327]).
قال الراغب في المفردات: «يقال وَفَدَ القوم يَفِدُ وِفادة وهم وَفْد ووفود، وهم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج، ومنه الوافد من الابل وهو السابق لغيره»( [328]). وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور، ومن هنا قيل: «إنّ لفظة الوفد مشعرة بالاكرام والتبجيل حيث آذنت بتشبيه حالة المتّقين بحالة وفود الملوك، وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات، لانّها تتضمّن الانصراف من الموفود عليه، والمتّقون مقيمون أبداً في ثواب ربّهم عزّوجلّ. والكلام على تقدير مضاف، أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنّة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك. وفي اختيار «الرحمن» في هذه الآية شأن، ولعلّه أنّ مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها، فكأنّه قيل: هنا يوم نحشر المتّقين إلى ربّهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برأفته، وحاصله يوم نحشرهم إلى من عوّدهم الرحمة، وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه»( [329]).
عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سُئل عن قول الله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً).
فقال: يا علي إنّ الوفد لا يكون إلاّ ركباناً، أولئك رجال اتّقوا الله فأحبّهم الله عزّ ذكره، واختصهم ورضي أعمالهم فسمّاهم المتّقين.
ثمّ قال له: يا علي، أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّهم ليخرجون من قبورهم، وإنّ الملائكة لتستقبلهم بنُوق من نوق العزّ، عليها رحائل الذهب مكلّلة بالدرّ والياقوت، وجِلالها الاستبرق والسندس، وخُطُمها جُدُل الارْجوان، تطير بهم إلى المحشر، مع كلّ رجل منهم ألف مَلَك من قدّامه، وعن يمينه وعن شماله، يزفّونهم زفّاً حتى ينتهوا بهم إلى باب الجنّة الاعظم. وعلى باب الجنّه شجرة، إنّ الورقة منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من الناس، وعن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكيّة.
قال: فيسقون منها شربة، فيطهّر الله بها قلوبهم من الحسد، ويسقط من أبشارهم الشعر، وذلك قول الله عزّوجلّ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً)( [330]) من تلك العين المطهّرة.
قال: ثمّ يصرفون إلى عين أخرى عن يسار الشجرة، فيغتسلون فيها وهي عين الحياة، فلا يموتون أبداً.
قال: ثمّ يوقف بهم قدّام العرش، وقد سلموا من الآفات والاسقام والحرّ والبرد أبداً. قال: فيقول الجبّار جلّ ذكره للملائكة الذين معهم: احشروا أوليائي إلى الجنّة، ولا توقفوهم مع الخلائق، فقد سبق رِضاي عنهم، ووجبت رحمتي لهم، وكيف أُرِيد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات والسيئات؟
قال: فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة، فإذا انتهوا بهم إلى باب الجنّة الاعظم، ضرب الملائكة الحلقة ضربة، فتصرّ صريراً، فيبلغ صوت صريرها كلّ حوراء أعدّها الله عزّوجلّ لاوليائه في الجنان، فيتباشرن بهم إذا سمعن صرير الحلقة، فيقول بعضهم لبعض: قد جاءنا أولياء الله، فيفتح لهم الباب، فيدخلون الجنّة، وتشرف عليهم أزواجهم من الحور العين والآدميين.
فيقُلن مرحباً بكم، فما كان أشدّ شوقنا إليكم، ويقول لهن أولياء الله مثل ذلك»( [331]).
قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَام أَمِين * فِي جَنَّات وَعُيُون* يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُتَقَابِلِينَ * كَذلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور عِين * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَة آمِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاُْولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)( [332]).
قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)( [333]).
قال تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)( [334]).
عن أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما كتب لمحمد بن أبي بكر، ولاهل مصر حين ولاّه في حديث طويل، قال (عليه السلام) : «يا عباد الله، إنّ أقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل لله بطاعته وينصحه في توبته، عليكم بتقوى الله، فإنّها تجمع الخير، ولا خير غيرها، ويدرك بها من الخير ما لايدرك بغيرها، من خير الدنيا وخير الآخرة، قال: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)»( [335]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...