التقوى في القرآن الكريم – السبيل ممكن
15 نوفمبر,2016
الاسلام والحياة
1,229 زيارة
من هنا سأل السائل في بعض الروايات السابقة «فكيف سبيل التوحيد» قال (عليه السلام): «إنّ معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه». بيان ذلك:
«إنّ حقيقة كلّ واحد من الاشياء كائنة ما كانت، هي عينها الموجودة في الخارج، فحقيقة زيد مثلاً هي هذا الوجود الانساني المتحقّق في الخارج، وهو الذي يتميّز بنفسه عن كلّ شيء، ولا يختلط بغيره، ولا يشتبه شيء من أمره في الخارج مع من سواه. ثمّ إنّا ننتزع منه معاني ناقلين إيّاها إلى أذهاننا، نتعرّف من خلالها حال الاشياء ونتفكّر في أمرها، كمعاني الانسان وطويل القامة والشاب وأبيض اللون وغير ذلك، وهي معان كلّية إذا اجتمعت وانضمّت ، أفادت نوعاً من التميّز الذهني الذي نقنع به.
وهذه المعاني التي ننالها ونأخذها من العين الخارجية، هي آثار الروابط التي بها ترتبط بنا تلك العين الخارجية نوعاً من الارتباط والاتصال، كما أنّ زيداً مثلاً يرتبط ببصرنا بشكله ولونه، ويرتبط بسمعنا بصوته وكلامه، ويرتبط بأكفّنا ببشرته، فنعقل منه طول القامة، والتكلّم، ولين الجلد ونحو ذلك. فلزيد مثلاً أنواع من الظهور لنا تنتقل بنحو إلينا، وهي المسمّاة بالصفات. وأمّا عين زيد ووجود ذاته في الخارج، فلا تنتقل إلى أفهامنا بوجه، ولا تتجافى عن مكانها، ولا طريق إلى نيلها، إلاّ أن نشهد عينه الخارجية (عياناً وشهوداً لا مفهوماً وحصولاً) ولا نعقل في أذهاننا إلاّ الاوصاف الكلّية.
ومن هذا البيان يظهر أنّا لو شاهدنا عين زيد مثلاً في الخارج، ووجدناه بعينه بوجه شهوداً فهو المعروف الذي ميّزناه حقيقة عن غيره من الاشياء، ووحّدناه واقعاً من غير أن يشتبه بغيره. ثمّ إذا عرفنا صفاته واحدة بعد أُخرى، استكملنا معرفته والعلم بأحواله. وأمّا إذا لم نجده عياناً وشهوداً، وتوسّلنا إلى معرفته بالصفات، لم نعرف منه إلاّ أموراً كلّية، لا توجب له تميّزاً عن غيره، كما لو لم نر زيداً بعينه وإنّما عرفناه بأنّه إنسان أبيض اللون طويل القامة حسن المحاضرة، بقي على الاشتراك مع غيره، حتى نجده بعينه ثمّ نطبّق عليه ما نعرفه من صفاته، وهذا معنى قوله (عليه السلام) : «إنّ معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه».
ومن هنا يتبيّن أيضاً أنّ توحيد الله سبحانه حقّ توحيده، أن يعرف بعينه أوّلاً، ثمّ تعرف صفاته لتكميل الايمان به، لا أن يعرف بصفاته وأفعاله، فلا يستوفى حقّ توحيده. وهو تعالى الغني عن كلّ شيء، القائم به كلّ شيء، فصفاته قائمة به، وجميع الاشياء من بركات صفاته، من حياة وعلم وقدرة ومن خلق ورزق وإحياء وتقدير وهداية وتوفيق ونحو ذلك، فالجميع قائم به، مملوك له، محتاج إليه من كلّ جهة.
فالسبيل الحقّ في المعرفة أن يعرف هو أوّلاً، ثمّ تعرف صفاته، ثمّ يعرف بها ما يعرف من خلقه لا بالعكس. ولو عرفناه بغيره، فلم نعرفه بالحقيقة، ولو عرفنا شيئاً من خلقه لا به، بل بغيره فذلك المعروف الذي عندنا، يكون منفصلاً عنه تعالى، غير مرتبط به، فيكون غير محتاج إليه في هذا المقدار من الوجود ، لذا ورد في بعض الروايات السابقة «لا يدرك مخلوق شيئاً إلاّ بالله». وورد في هذه الرواية «وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أنّ ما فيه له وبه» أي تعرف نفسك بالله، لانّك آثرة من آثاره، لا تستغني عنه في ذهن ولا خارج، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، حتى تثبت نفسك مستغنياً عنه فتثبت إلهاً آخر من دون الله من حيث لا تشعر، وتعلم أنّ ما في نفسك لله وبالله سبحانه لا غنى عنه في حال»( [479]).
ونعْمَ ما قال الشيخ ابن سينا في هذا المجال، «وإنّه لا حدّ له، ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كلّ شيء»( [480]).
وبهذا يتّضح سبب تأكيد الروايات على معرفة النفس، وأنّه من عرف نفسه فقد عرف ربّه، وأنّ أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه «لانّ الانسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها، انقطع إلى ربّه من كلّ شيء، وعقّب ذلك معرفة ربّه معرفة بلا توسيط وسط، وعلماً بلا تسبيب سبب، إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه»( [481]). وهذا ما ورد في مناجاة أمير المؤمنين (عليه السلام) والائمّة من ولده (عليهم السلام) أنّهم كانوا يدعون بهذا الدعاء: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حُجُب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»( [482]).
«فتحصّل أنّ النظر في آيات الانفس أنفس وأغلى قيمة، وأنّه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعدّه (عليه السلام) إيّاها أنفع المعرفتين (بل هي أنفع المعارف) لا معرفة متعيّنة، إنّما هو لانّ العامّة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنّة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي، وهو النظر الشائع بين المؤمنين، فالطريقان نافعان جميعاً، لكن النفع في طريق النفس أتمّ وأغزر»( [483]).
التقوى القرآن الكريم 2016-11-15