شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١
15 ساعة مضت
الاسلام والحياة
14 زيارة
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ” (1).
وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة، حتى مجلت (2) يده، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجرا.
وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام: كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال: ” لا ” لسائل قط.
وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن (3) بن أبي محفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: ويحك “! كيف تقول إنه أبخل الناس، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه.
وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها، وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غري غيري. وهو الذي لم يخلف ميراثا، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام.
وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسئ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم – وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضا – فصفح عنه.
وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الاشهاد، وخطب يوم البصرة فقال:
قد أتاكم الوغد (4) اللئيم علي بن أبي طالب – وكان علي عليه السلام يقول: ما زال الزبير
(١) سورة البقرة ٢٧٤، وللمفسرين في هذه الآية أسباب أخرى للنزول، ذكرها القرطبي في التفسير ١٩: ١٢٨، وانظر أسباب النزول للواحدي ٢٣١.
(٢) مجلت يده، أي ثخن جلده وتعجز وظهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة، أنها شكت إلى علي مجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير 4: 80.
(3) كذا ضبطه الذهبي بالقلم في المشتبه ص 464.
(5) في ب: ” الوغب “، وهما بمعنى.
(٢٢)
رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله – فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيرا، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك، لم يزده على ذلك.
وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة، وكان له عدوا، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا.
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت وقالت: هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن، وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع (1) مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئا من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس.
ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له:
اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا (2) لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء،
(٢٣)
وصار أصحاب معاوية في الفلاة، لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: أمنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجه لك إلى الحرب، فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك. فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام!.
وأما الجهاد في سبيل الله: فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين، وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر. وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه، لأنه من المعلومات الضرورية، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما.
* * * وأما الفصاحة: فهو عليه السلام إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي (1) كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباتة (2):
حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك!
(1) ب: ” وعن كلامه “.
(2) هو عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن إسماعيل الفارقي الجذامي.
(٢٤)
2025-06-06