نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس، وهل بيّنت الشريعة السُبل للوصول إلى هذا المقام السامي، أم أهملت ذلك، وأوكلت كيفيته إلى السالكين أنفسهم؟
«زعم بعض أنّ كيفية السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعاً، حتى ذكر بعض المصنّفين أنّ هذا الطريق في الاسلام، كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به، فقبل الله سبحانه ذلك منهم، قال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)( [484]) قال: فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة، إلاّ أنّها طريقة إلى الكمال مُرضية.
من هنا ربما يوجد عند بعض أهل هذا الطريق وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة، لا تكاد توجد أو لا توجد في مطاوي الكتاب والسنّة، ولم يشاهد في سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والائمّة من أهل البيت (عليهم السلام). وذلك كلّه بالبناء على ما مرّ ذكره، وأنّ المراد هو العبور والوصْل بأي نحو أمكن بعد حفظ الغاية، وكذلك الطرق المأثورة عن غير المسلمين من متألهي الحكماء وأهل الرياضة، كما هو ظاهر لمن راجع كتبهم، أو الطرق المأثورة عنهم.
لكنّ الحقّ الذي عليه أهل الحقّ، وهو الظاهر من الكتاب والسنّة، أنّ شريعة الاسلام لا تجوّز التوجّه إلى غير الله سبحانه، للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه، والاعتصام بغيره سبحانه، إلاّ بطريق أمر بلزومه وأخذه، وأنّ شريعة الاسلام لم تُهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلاّ بيّنتها، ولا شيئاً من لوازم السير إلى الله سبحانه يسيراً أو خطيراً إلاّ أوضحتها، فلكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. قال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)( [485])، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)( [486])، وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)( [487])، وقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)( [488]).
والاخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بل متواترة.
عن أبي حمزة الثمالي (رحمه الله) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع فقال: «يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»( [489]).
ممّا تقدّم يظهر أنّ حظّ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع، وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكّك ذو مراتب، ونعم ما قال بعض أهل الكمال، إنّ الميل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقّة، فرار من الاشقّ إلى الامهل، فإن اتباع الشرع قتل مستمر للنفس (الهوى) دائمي ما دامت موجودة، والرياضة الشاقّة قتل دفعي، وهو أسهل إيثاراً. وبالجملة فالشرع لم يهمل بيان كيفية السير من طريق النفس»( [490]).
والتدبّر في الروايات الواردة في العلاقة بينه تعالى وبين خلقه، توصلنا إلى أنّه لا حجاب بينه وبين خلقه. قال الامام السجّاد علي بن الحسين (عليهما السلام): «وإنّ الراحل إليك قريب المسافة وإنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الاعمال دونك»( [491]). وعن الامام الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السلام): «ليس بينه وبين خلقه حجاب إلاّ خلْقه، فقد احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور»( [492]).
«وهذا الحديث الشريف أجمل بيان لاحسن طريق، يبتدئ بالاسباب الواردة شرعاً للانقطاع، من التوبة والانابة والمحاسبة والمراقبة والصمت والجوع والخلوة والسهر، ويجاهد بالاعمال والعبادات، ويؤيّد ذلك بالفكر والاعتبار، حتى يورث ذلك انقطاعاً منها إلى النفس، وتوجّهاً إلى الحقّ سبحانه، ويطْلع من الغيب طالع، ويعقبه شيء من النفحات الالهية والجذبات الربانية، ويوجب حبّاً وإشراقاً وذلك هو الذكر. ثمّ لا يزال بارق يلمع، وجذبة تطلع، وشوق يدفع، حتى يتمكّن سلطان الحبّ في القلب، ويستولي الذكر على النفس، فيجمع الله الشمل، ويختم الامر، وإنّ إلى ربّك المنتهى.
واعلم أنَّ مَثَل هذا السائر الظاعن، مَثَل من يسلك طريقاً قاصداً إلى غاية، فإنّما الواجب عليه أن لا ينسى المقصد، وأن يعرف من الطريق مقدار ما يعبر عنه، وأن يحمل من الزاد قدر ما يحتاج إليه. فلو نسي مقصده آناً ما، هام على وجهه حيران، وضلّ ضلالاً بعيداً (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَان سَحِيق)( [493]). ولو ألهاه الطريق ومشاهدته ما فيه، بطل السير وحصل الوقوف، ولو زاد حمل الزاد، تعوّق السعي، وفات المقصد»( [494]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...