الجهاد في سبيل الله
على الإنسان الذي يبحث عن السّبيل الأسلم لتعميق الإيمان وتثبيته في النّفس طمعاً في الهداية، أن يبحث عن أفضل الأعمال التي تبرهن عن صحّة وسلامة مقاصده وأهدافه. فليس كلّ من ادّعى ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ صحّت هجرته إلى ربّه، بل عليه أن يقدّم الأدلّة التي تثبت صحّة نيّته وصدقه في الطلب. وأفضل وسيلة لإثبات هذا المدّعى هو انتخاب أفضل الأعمال التي تقرّبنا إلى الله وتدنينا منه. ويُعتبر الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال وأحمزها، فقد سُئل إمامنا الصادق عليه السلام ذات مرّة: أي الأعمال أفضل؟ فقال عليه السلام: “الصّلاة لوقتها وبرّ الوالدين والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ” . وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: “الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض” ، وهو أشرف الأعمال أيضاً كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين، والأجر فيه عظيم” .
ومنشأ هذه العظمة والأهمّية, أنه ما صلحت دنيا ولا دين إلّا بالجهاد. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “إن الله عزّ وجلّ فرض الجهاد وعظّمه، وجعله نَصْرَهُ وناصِرَه،ُ والله ما صلَحت دنيا ولا دين إلا به”22. وكيف لا تكون له هذه العظمة وهو من أركان الإيمان كما قال عليه السلام: “الإيمان أربعة أركان الصّبر واليقين والعدل والجهاد” . وقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج العملي للإسلام واختصره بكلمةٍ واحدة في الجهاد في سبيل الله حيث قال: “سياحة أمّتي الجهاد” . فمن أراد اتّباع سبيل الحق لا طريق له إلى ذلك إلّا بالجهاد.
والجهاد في سبيل الله على قسمين كما أخبر بذلك رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث رُوي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم استقبل سريّة كان قد بعثها للقتال فقال لها بعد عودتها: “مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل له: وما الجهاد الأكبر، قال: جهاد النفس” . الجهاد الأصغر وهو مواجهة العدوّ الخارجي من الكفّار وأعداء الإسلام، الذين يمنعون إقامة حكم الله تعالى على الأرض، وهذه المواجهة لها أشكالٌ عديدة: عسكرية وأمنية وسياسية وثقافية واقتصادية وغيرها… وهذا الجهاد الأصغر هو درع الله الحصينة وجنّته الوثيقة،
كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وسوّغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها. والجهاد هو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء” .
أما الجهاد الأكبر فهو محاربة العدوّ الباطني، وهو الأهواء والنفس الأمّارة. ووظيفة المجاهد الأساسيّة القضاء على هذا العدوّ الباطني والانتصار عليه، وهو أشدّ فتكاً وخطراً من العدوّ الخارجي بل ومن أخطر الأعداء على الإطلاق كما أخبر عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى قائلاً: “الله الله في الجهاد للأنفس فهي أعدى العدوّ لكم، إنه تبارك وتعالى قال إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وإنّ أوّل المعاصي تصديق النفس، والركون إلى الهوى” .
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الجهاد بالأكبر، لأنّ الهزيمة فيه هي الهزيمة الحقيقية، والانتصار فيه هو الانتصار الأكبر. فالهزيمة في ساحة الجهاد الأصغر ليست هزيمة في الحقيقة بل هي نيل إحدى الحسنيين، أمّا في ساحة الجهاد الأكبر فإنّ الإنسان إذا فشل في محاربة النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها ستسيطر عليه وتصبح هي الآمر والناهي في مملكة وجوده، فيخرج بذلك من ميدان العبوديّة لله ليدخل في ميدان عبوديّة النّفس والطاعة لها فيسقط في أسفل سافلين ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ ، وربما لا يتمكّن من جبران هذه الخسارة بعدها أبداً.
فالنفس جرّاء التعلّق بزينة الدنيا وشهواتها تصبح مشغوفة بها، فتدعو صاحبها لارتكاب الخطايا وتزيّن له السيّئات، وهي لا تزال على هذا المنوال حتى تصبح أمّارة بالسوء لا يهدأ لها خاطر إلا إذا دعت وأمرت بالسيّئات. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة بقوله ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ . فالّنفس إذا تركت وشأنها وأهملت تربيتها تكون مبادرة إلى المعاصي وتأمر بالسوء دائماً،
والاستثناء هو ما خرج برحمة الله تعالى بالتربية والمجاهدة. وعليه نصل إلى هذه النتيجة, أن من آمن بالله حقّ الإيمان، وهاجر إليه، وجاهد في سبيله، فهو في أعظم درجة عند الله، وهو من الفائزين ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ .