منذ شهرين تقريباً وتدحرج كرة النار في سورية يلتهم موقعاً وراء موقع، من سقوط بصرى الحرير ووراءها موقع نصيب على الحدود مع الأردن، ومن ثم تتالت عملية تساقط حبات السبحة من الشمال هذه المرة في إدلب وجسر الشغور ومعسكري القرميد والمسطومة وصولاً إلى أريحا، التي وقعت كلها في يد «جبهة النصرة»، ومن ثم هوت تدمر في يد «داعش». وكان طبيعياً أن يشكل كلّ ذلك منصة كافية لإطلاق التحليلات والاستنتاجات بأنّ موازين القوى في سورية تتغيّر بعكس مصلحة الجيش والدولة، اللذين حافظا على وتيرة تحقيق التقدّم تلو التقدّم منذ سنة على الأقلّ.
– في ما يخصّ جبهتي الشمال والجنوب، تزامن التغيير مع بدء حرب السعودية على اليمن، ما ينفي عن الحدث أسبابه السورية الصرفة، وينفي كونه مجرّد تغيير في ظروف وقواعد اشتباك سورية ـ سورية كما تحاول مصادر المعارضة، التي تحتفل بانتصارات ليس لها فيها يد، أن تقول، وبدا أنّ الترجمة التركية والأردنية للانضواء في التحالف الذي أنشأته السعودية بِاسم «عاصفة الحزم» هو بإدارة هذا التحوّل كلّ على حدوده، سواء بتحشيد مجموعات من المنتمين لتنظيم «القاعدة» وتنظيمها والزجّ بها عبر الحدود، أو بتقديم الغطاء الناري والدعم الاستخباري أو تأمين نقاط العبور الآمن لهذه المجموعات للتموضع داخل الأراضي السورية، وهذا يستحيل أن يتمّ من وراء ظهر القيادة السياسية والعسكرية الأميركية التي رافقت «عاصفة الحزم» بالتأييد، وواكبت التدخل الأردني والتركي في سورية بالإعلان المتكرّر عن العزم على تدريب ما تسمّيه بـ»المعارضة المسلحة» بالتعاون مع الأردن وتركيا، فيما القصد واضح وهو تغيير الموازين داخل سورية، أو تغطية ما تقوم به الحكومتان التركية والأردنية لهذا الغرض.
– كانت بالتزامن مع كلّ ما جرى شمال سورية وجنوبها إطلالات متكرّرة لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مكرّسة تقريباً للوضع في سورية، ولكنها على رغم منحها وقتاً ونصيباً لمعارك الشمال والجنوب، تصرّ على اعتبار حرب القلمون هي المفصل الاستراتيجي الذي يقرّر مصير الحرب على سورية، من ضمن ما ستقرّره هذه الحرب من حسم لمواقع النزاع في المنطقة، سواء بالنسبة إلى ميزان الردع في وجه «إسرائيل»، أو إلى مكانة محور المقاومة في توازنات المنطقة المقبلة. ففي القلمون قوة نخبة النخبة لـ«جبهة النصرة»، والقلمون هو الجغرافيا التي تتيح وحدها الربط بين مواقع «جبهة النصرة» والحدود مع فلسطين، بالتالي خطوط الاشتباك مع «إسرائيل»، ومن هناك إما أن تنجح «النصرة» في الوصل نحو جبل الشيخ والجولان فيكسر ظهر المقاومة وسورية، أو يكسر ظهر «النصرة» و«إسرائيل» بتنظيف القلمون من «النصرة» وتحويلها قاعدة ارتكاز لحسم ريف دمشق وجنوب سورية.
– نجحت حملة السيد نصرالله في تبيان أهمية القلمون، وفي جعل جمهور سورية والمقاومة يعضّ على جراحاته، ولا يواصل الضغط النفسي لنقل قدرات المقاومة والجيش السوري من القلمون إلى الشمال أو الجنوب لردّ الهجمات، والبقاء حيث المفصل المقرّر، في القملون، ووفقاً للحساب الدقيق بدأت حرب القلمون وتتالت الإنجازات المبهرة للمقاومة والجيش السوري، وبدأت الصحافة الأجنبية ووسائل الإعلام ومراكز البحوث والدراسات بمواكبة الحدث الكبير ومنحه حجمه المقرّر في مشهد الشرق الأوسط الجديد، حتى ظهرت فجأة عملية الاندفاع الأشدّ إبهاراً لـ«داعش» نحو كلّ من الرمادي وتدمر، فخطفت الأضواء وصارت هي الحدث وأعادت إلى الواجهة السؤال، هل بدأ الوضع في سورية يتغيّر؟
– تقدّم وسائل الإعلام «الإسرائيلية» ما يكفي من المادة الإعلامية خلال يومين لمن يريد الترويج لخلاصة مفادها أنّ سورية ستسقط بيد ثنائي سيتقاسم جغرافيتها هو «داعش» و«النصرة»، وبصورة فاضحة تورد وسائل الإعلام «الإسرائيلية» ذلك من دون إبداء أيّ قلق من نتائجه، التي سبق لـ«إسرائيل» أن تحدّثت عن خوفها وقلقها، داعية إلى التحسّب للأسوأ إذا استتبّ الأمر لهذا الثنائي في بلد الجغرافيا الأهمّ في الشرق الأوسط الذي تمثله سورية، ولخص موقع «ديبكا» القراءة «الإسرائيلية» المعمّمة على كلّ الكتاب والصحف وقنوات التلفزة تجاه ما يجري في سورية باختصار المشهد، كما قال، بالعوامل التالية: «الأول: نظام الرئيس بشار الأسد لن يستطيع الصمود لفترة طويلة، أمام المساعدة العسكرية الكبيرة التي تقدّمها السعودية وقطر وتركيا للمتمرّدين السوريين، وبخاصة «جبهة النصرة». الثاني: الجيش السوري فقد القدرة والدافع لمواصلة الحرب، حيث تنسحب قواته أمام كلّ هجوم تتعرّض له، ويخسر الأسد بسرعة كبيرة المزيد من الأراضي في سورية. الثالث: على رغم إعلان زعيم حزب الله، حسن نصر الله، أن قواته ستقاتل في كلّ مكان في سورية، إلا أنه لا يملك القوات الكافية لإدارة حرب واسعة، والحفاظ في ذات الوقت على مواقعه في لبنان».
– تقدّم وسائل الإعلام الأميركية ما يكفي لمن يريد فهم كيف يجري ما يجري، وفهم لماذا لا تخشى «إسرائيل» أن يتغيّر الوضع في سورية، أو لماذا تروّج لما يشكل جواً من حرب نفسية إذا كان الأمر كذلك، فتقول «فورين بوليسي» الأميركية إنّ الحرب الأهلية الوحشية في سورية كادت تصبح طيّ النسيان منذ أن بدأت الطائرات الحربية الأميركية قصف أهداف تنظيم الدولة الإسلامية في أنحاء البلد، الأمر الذي منح الرئيس بشار الأسد فرصة سحق المعارضة التي تحاول الإطاحة به من دون أن ينبس الغرب ببنت شفة أو يحرك ساكناً لعمل أيّ شيء، ووفقاً لدعوتها الصريحة هنا للتوقف عن قصف مواقع «داعش» نفهم ما جرى في تدمر، وربما نفهم أكثر أنّ «داعش» تنظيم وجد ليبقى، كما تقول دراسة هامة لـ«الفورين بوليسي» نفسها المعروفة بالجدية والاتزان، فتتطرّق إلى مستقبل خطر عودة المنضوين في صفوف «داعش» إلى بلاد الغرب إذا هزم تنظيم «داعش» في سورية والعراق، فتلخص الأمر بسؤال وجواب للكاتب ألكساندر إيفانس «هل سيتحوّل العالم إلى مكان آمن إذا تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من هزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسورية؟» مضيفاً: «لا للأسف، هذه لن تكون النتيجة على وجه الضرورة». وهكذا نصير أمام قرار ينطلق من تقدير مخاطر أيّ نصر يحرز في سورية والعراق على «داعش» يبدو أنه ممنوع الوقوع أميركياً، وهذا كاف ليفسّر كثيراً هذه الاندفاعات التركية والأردنية والسعودية والقطرية، ولكن سنجد أيضاً ما يجعلنا نفهم الموقف الفرنسي الداعي إلى التعامل مع «جبهة النصرة» كمكوّن سياسي معتدل يجب نزع صفة الإرهاب عنه، عندما نقرأ في «كريستاين ساينس مونيتور» تقريراً عن حتمية نصر «داعش» بسبب تفوّق الروح المعنوية على الجيوش، وفي المقابل تشاركه هذه الروح المعنوية مع «جبهة النصرة»، لتكمل لنا «وول ستريت جورنال» النصف الثاني من المسألة بتقرير عن حجم التحوّلات في سلوك «جبهة النصرة» نحو «الابتعاد عن السلوك الإرهابي وترجمة مفاهيم ديمقراطية» لدرجة تجعلنا نرفع حواجبنا دهشة لهول المهمة التي تريد الصحيفة تأديتها بكلّ وقاحة، تحت شعار إنْ كنتم تخشون «داعش» فما عليكم إلا دعم «النصرة».
– بعد أن تتوضح لنا الصورة، ونفهم كيف ولماذا يجري ما يجري، وقبل أن نتساءل هل سيبقى حلف المقاومة، خصوصاً إيران في موقع حدود الدعم الراهنة التي لم تعد كافية على رغم أهميتها، وإذا كان الردّ في العراق له أدواته، وقواه، وسهولته الجغرافية فكيف سيكون الردّ في سورية، وإذا كانت روسيا تضع كلّ ما يتوجب في خدمة صمود الجيش وتعزيز مصادر قوته، أو إذا كان المطلوب أكثر فيجب أن يبدأ الإيرانيون ليتسنّى مطالبة الروس بالأكثر، فماذا سيفعل الإيرانيون، لتضع لنا القراءة «الإسرائيلية» الرؤية التي يسردها موقع «ديبكا» مشروع جواب حيث يقول، إنّ على «إسرائيل» الاستعداد بسبب الغباء السعودي بالتصعيد من دون امتلاك خريطة طريق للتصرف الإيراني، أن تستعدّ لمرحلة يكون عنوانها معاهدة دفاع سورية ـ إيرانية، وانتشار قوات إيرانية في كلّ من سورية والعراق، تحت شعار مكافحة الإرهاب وتقدّم قوات «داعش»، وهي مهمة لا يستطيع أحد الاحتجاج عليها، خصوصاً بعد العمل العسكري الذي قامت به السعودية في البحرين واليمن، والعدو هناك ليس «القاعدة» بل ناشطون محليون، بينما الصورة التي يجمع عليها العالم في سورية هي أنّ «القاعدة» تتقدّم وتهدّد بوضع اليد على أغلب الجغرافيا السورية والعراقية، وهذا تهديد للسلم والأمن العالميين مجمع على تشخيصه في قرارات مجلس الأمن الدولي.
– ليس أكيداً ما يتوقعه «الإسرائيليون» لكن الأكيد أنّ التغييرات الكبرى آتية، وعلى «الإسرائيليين» وحلفائهم في تركيا وقطر وفرنسا والسعودية خصوصاً الاستعداد لما لا يرضيهم ولا يفرحهم ولا يعجبهم.
المصدر : الديار اللبنانية