يكتسب “الشهيد” مكانته بين شعبه وأمته، عندما يتميّز عن الآخرين بتضحيته بأغلى شيء يمتلكه الانسان وهي روحه، من أجل مبادئ وقيم سامية، سواء في حراك ثوري وجماهيري بعناوين وطنية، أو خلال التصدّي لعدوان خارجي، لذا نجد أن الشهداء يمثلون صفوة المجتمع في زمن الحرب والمواجهة، وعندما تضع الحرب أوزارها ترتفع صورهم واسمائهم في كل مكان، وتحيى ذكراهم عند الاجيال القادمة. وفي كل خطوة نحو النمو الاقتصادي والتقدم العلمي، يستذكر الابناء فضل أولئك الابطال الذين مهدوا الأرضية لهم ليجلسوا على مقاعد الدراسة، ليكتسبوا العلم والمعرفة، أو يمارسوا حياتهم الطبيعية وهم يرفلون بالأمن والرخاء والكرامة، بعيداً عن اضطهاد الحاكم أو استعباد الاجنبي.
حلقة الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل
صحيح أن الشهداء ينتمون الى مرحلة الثورة والتغيير والمواجهة، وكل ما يتّسم بحالة اللااستقرار، بيد أن الأمن والاستقرار الذي يعقب هذه المرحلة سيكون بفضل تلك الجهود والتضحيات، بل ان هذه التضحيات ستلقي بظلالها على الافكار والمشاريع الجديدة، بل وتطبع الهوية الجديدة التي سيكتسبها الجيل الجديد في قادم الأيام.
ليس هذا وحسب، وإنما تكون هذه المعنويات وسيلة الدفاع في ساحة المواجهة المحتدمة على الصعيد السياسي والاقتصادي وحتى الامني مع العالم الخارجي، فالجيل الجديد الذي يتشكل منه الوطن والامة، يمتلك رصيد حضاري وثقافي غذته تضحيات الآباء والاشقاء، فعندما يتوقفون عند مفترق طرق، إما التنازل عن قيم ومبادئ الشهداء، وكسب المصالح السياسية والاقتصادية، وإما تحمّل العقوبات الاقتصادية والضغوطات السياسية، فانهم قطعاً؛ يأخذون بالخيار الثاني، رغم ما يكلفهم، ويكلف البلد والشعب بأكمله العناء وضنك العيش، لانهم يعلمون ان تحقيق بعض المكاسب السياسية والاقتصادية السريعة، يكون مقابل خسارتهم الهوية التاريخية والحضارية.
ماذا نخسر بنسيان الشهداء
من الطبيعي أن يكون هنالك أعداء لأولئك الشهداء، رغم أنهم تحت التراب، لانهم كانوا سبباً في تعرضهم للمهانة والهزيمة خلال فترات المواجهة، وهؤلاء عادةً ما يتمثلوا في بقايا الانظمة الديكتاتورية وأيتام الحاكم السابق، او الدوائر المخابراتية التي تسعى للثأر للمصالح السياسية والاقتصادية التي خسرتها القوى الكبرى خلال تلكم المواجهة.
من هنا، فان كل الشعوب التي تشهد تحولات ثورية وإصلاحية، تكون مهددة بهجوم جديد، حالما تتغافل عن تاريخها النضالي وتضحياتها ، او بالاحرى؛ التخلّي عن درعها المعنوي الواقي من التأثيرات السلبية سواء من الداخل او الخارج.
لنأخذ الوضع العراقي مثالاً حيّاً، نابضاً، ففي التاريخ الحديث للشعب العراقي، سجل ضخم من التضحيات الجسام، من علماء دين ومفكرين وشباب ونساء ومن جميع افراد المجتمع، سقطوا شهداء في أقبية السجون او تحت التعذيب دفاعاً عن الحرية والعدالة والقيم الاخلاقية والانسانية. بما يعني أن الجيل الجديد الذي يشهد اليوم تشييد نظام مغاير تماماً للنظام السابق ويحمل سمات الديمقراطية، يفترض ان يرفل بالحرية والعدالة وكل ما من أجله ضحى آلاف الشباب المؤمن والرسالي بأرواحهم.
لكن الذي نشهده اليوم في العراق، حُزمات من ازمات…! في الخدمات والاقتصاد والقانون والامن وغيرها. والسبب في ذلك؛ هو خسارة القيم التي ضحى من أجلها الشهداء، والتغافل عن ايجاد مكانة خاصة لهم في النفوس، وهذا جعلنا نقدم تضحيات جديدة من اجل القيم ذاتها، كما لو أن شيئاً لم يحصل خلال الاربعين عاماً الماضية!.
ان الذين غيبهم النظام البائد في السجون، ربما لم يطالعوا الكثير عن الديمقراطية، او سمعوا شيئاً عنها، ولم تكن لهم علاقات سياسية على الصعيد الاقليمي والدولي، كالذي نشهده اليوم، ولم تكن لهم طموحات شخصية بامتلاك القصور والسيارات الفارهة والوصول الى المناصب الرفيعة، إنما تخلوا عن الراحة والاستقرار في بيوتهم وتركوا مقاعد الدراسة وطموحات المستقبل، من اجل الدفاع عن القيم الاخلاقية والانسانية التي حاول النظام البائد ان يستبدلها بقيم ومبادئ من بُناة افكاره، كما صرّح بذلك صدام نفسه خلال عملية الاقتراع لانتخاب اعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في ثمانينات القرن الماضي، وقال: “لا علينا بمن يشرب الخمر ومن لا يشرب، ومن له صفات حميدة او ذميمة، فنحن لدينا كتاب – ويشير الى كتاب خاص بافكار الحزب امامه على الطاولة- فيه كل ما نريد…”.
نعم؛ لقد أعطى صدام بعض ما يريده المواطن العراقي من اجل ان يضحي بكل ما يريده هو، وهذا ما دفع الشباب الواعي والرسالي لأن يختار الموت في طريق القيم والمبادئ السامية، على الموت وسط نيران المعارك العبثية، وأن لا يقبل بحياة مقطوعة عن التراث والتاريخ والحضارة، يقودها شخص قادم من المجهول، ينطوي على تركيب من عقد وأزمات نفسية.
ان الواقع الذي صنعه صدام لدى وصوله الى قمة السلطة، يشبه الى حدٍ ما الواقع الذي نعيشه اليوم، لان في تلك الفترة، تغافل الشعب العراقي عن تضحيات جسام قدمها مجاهدون وعلماء في سالف الزمان، وتحديداً في ثورة العشرين، حيث استشهد العشرات من ابناء العشائر خلال مواجهتهم الاستعمار البريطاني، ثم وجدوا انفسهم مرة اخرى في قبضة نظام حكم يمثل امتداد لحقبة الاستعمار، حيث الظلم والكبت والتمييز الطائفي، في حين كان يفترض بجيل ما بعد ثورة العشرين احكام الربط بين طموحات التغيير والتطوير، وبين تراث الشهداء الذين بذلوا دمائهم ليكون العراق مستقلاً حراً وكريماً، كما وجده جيل ما بعد ثورة العشرين.
أما عن كيفية إحياء ذكر الشهداء وتضحياتهم، فان الاجراءات المتبعة حالياً، تقتصر على ما يشبه “الترضية” او تطييب الخاطر، في حين إن القضية لا تحل بالمال وقطعة الارض وبعض الامتيازات، إنما بتحويل مفهوم الشهادة الى ثقافة في المناهج الدراسية وتكريسها في الوجدان الشعبي، من خلال برامج وفعاليات متعددة، من قبيل زيارة عوائل الشهداء، والاهتمام بأوضاعهم المعيشية، وايضاً؛ تكريس ثقافة الشهادة والتضحية في المجتمع.
وبما أن العراق اليوم يخوض حرباً فرضت عليه مع الارهاب التكفيري، فان الجميع مدعوٌ لتحمل المسؤولية، فالقضية غير مقتصرة على الجهود الحكومية، إنما الجميع مشمولين بالمشاركة في هذا الجهد الحضاري، من أكبر فرد في المجتمع واكثرهم علماً ومالاً، الى اصغر فرد واقلهم امكانية، لتكون العملية تفاعلية بين طالب المدرسة والعامل والموظف وحتى المسؤول الكبير في الدولة، وبين الشهيد الذي ترك زوجته واطفاله دفاعاً عنهم وعن القيم التي يعيشون في ظلها. حينها سنكون على طريق التنمية والتطور، عندما نمتلك روح التحدي في الابداع، وروح التآخي والتكافل والتعايش، مستلهمين ذلك من روح التضحية التي تحلّى بها الشهداء.
نقلاً عن موقع النبأ