أعلن رئيس الوزراء التركي، زعيم “حزب العدالة والتنمية” أحمد داود أوغلو، فشل المفاوضات بين حزبه و”حزب الشعب الجمهوري” بهدف تشكيل ائتلاف حكومي يجنّب البلاد انتخابات مبكرة. قبل هذا الإعلان بيوم، حسم داود أوغلو نفسه، مسألة عزم بلاده على إقامة “منطقة آمنة” على الشريط الحدودي مع سوريا، مع استمرار الحرب المفترضة على “الإرهاب”. أعقب الإعلام والحسم هبوط الليرة التركية إلى مستوى قياسي بلغ 2.82 مقابل الدولار.
لا يبدو أن الأوضاع في تركيا ذاهبة نحو الاستقرار، لا في السياسة ولا في العسكر ولا حتى في الاقتصاد. فيما الدول الكبرى والإقليمية ذاهبة نحو ترتيب ملفاتها وتحسين أوراق التفاوض خاصتها، استعداداً للمرحلة التالية،
ذهبت تركيا ـ أردوغان صوب التشدّد في معالجة أكثر من ملف داخلي شائك. العصبية التركية ظاهرة في أفعال حكومة “العدالة والتنمية”، إنْ ضد الأكراد أو في وجه الجهود السياسية لتشكيل حكومة ائتلافية. لتلك العصبية أسبابها الداخلية والخارجية أيضاً.
في الشق الداخلي، يقرأ معارضو أردوغان تشدّده من ضمن سياق نيّته المبيتة لإلغاء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي قضت على أحلامه “التوسعية”. يقولون إن الجهود التي قادها “ممثله” المكلّف تشكيل الحكومة، كانت استعراضية ومعروفة النتيجة: لا اتفاق مع أحزاب المعارضة على تشكيل حكومة ائتلافية. الهدف مرسوم مسبقاً، الانتخابات النيابية المبكرة في محاولة لاستعادة “هيبة” حزب “العدالة والتنمية” ومشروعه القائم على النظام الرئاسي. حلم أردوغان يتوقف على 18 نائباً يحصل من خلالهم على غالبية مطلقة تخوّله إمرار القوانين اللازمة في مجلس النوّاب.
في الشق الداخلي أيضاً، يضع معارضو أردوغان حربه المعلنة على “الإرهاب” في سياق الحملة الانتخابية. تشييع المزيد من قتلى الجيش التركي يومياً، يحرّك الحسّ الوطني والنزعة القومية لدى الجمهور. يعتبر المعارضون أن الحرب التي يشنّها حزب “العمّال الكردستاني” هدفها دعائي. يريد أردوغان القول للأتراك نريد منع إنشاء شريط كردي على امتداد الحدود التركية ـ السورية، وحفظ الأمن القومي التركي من الأطماع الكردية المزمنة. بينما هو يقول فعلاً للأكراد: إنكم أخطأتم في الانتخابات التشريعية الماضية، وأنتم تدفعون اليوم ثمن خطئكم هذا، فيما باب “التوبة” لا زال مفتوحاً، والتكفير عن الذنب ممكن عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات المبكرة القادمة.
التشدّد وسيلة أردوغان لتمرير الرسائل الى الداخل والخارج!
خارجياً، يحاول أردوغان الظهور بمظهر الرئيس القوي المسيطر والفاعل في مسار الأحداث في المنطقة. الأهم أنه بمحاكاته العدوان السعودي على اليمن ضد الأكراد، يوجّه رسائل الى واشنطن والرياض. فالاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى زاد الدبلوماسية التركية تأزّماً. لم تغب تركيا عن هذا الاتفاق فحسب، بل أتى هذا الاتفاق على حساب “إعلان طهران” الذي أُعلن عنه في 17 أيار/مايو 2010 واقترح مخرجاً لأزمة البرنامج النووي الإيراني، واعتبره أردوغان “درّة تاج” الدبلوماسية التركية.
تحاول تركيا التعويض. ففي سوريا، يسعى أردوغان مع القطريين الى إعادة إحياء بعض الجماعات المسلّحة المرتبطة بالاخوان المسلمين. تنحصر مهمة هذه الجماعات في ملء الفراغ العسكري والأمني الذي سيظهر في “المنطقة الآمنة” التي توعّدت أنقرة بتأمينها داخل الحدود السورية. تهدف الدوحة وأنقرة من وراء إعادة بثّ الروح في فصائل الإخوان، الى القول للسعودية إنها ليست اللاعب الوحيد المؤثر على الأرض السورية، عبر الجماعات المسلحة، وإن الانكفاء القطري ـ التركي لا يعني ذوبان تأثيره وبالتالي مصادرة مكاسبه، في زمن حصد النتائج السياسية والاقتصادية لمعركة تخريب سوريا.
الرسالة التركية نفسها موجّهة الى واشنطن التي لا زالت تمتنع عن إضاءة الأخضر للحرب التركية على الأكراد. تحاول أنقرة الإثبات لواشنطن أن لا حلول في سوريا قد تمر بمعزل عن رضاها. في المقابل، يقول معارضون لسياسة أردوغان، إن الأخير ربط القرار الإستراتيجي التركي بقرار الإدارة الأميركية ومصالحها في المنطقة. وعليه، ستبقى سياسة “غض النظر” الأميركية تجاه ضرب الأكراد، هي التي تحدد مصير هذه الضربات. بمعنى آخر، تحظى الحملة التركية الحالية على الأكراد بمباركة أميركية مشروطة بنوعية الضربات وأسلوب الهجمات، ومؤقتة بتوقيت الانتخابات المبكرة. وبالتالي، يُتوقع حدوث الهجمات التركية ضد الأكراد بانتهاء الانتخابات المبكرة المتوقعة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
لا يعني وقف الهجمات ضد الأكراد، حدوث مصالحة أو اتفاق سلام بين الطرفين. التجربة تدل على أن الحكومات التركية المتعاقبة ترى في الأكراد خطراً استراتيجياً يهدد سيادة “الأمة التركية”. لكن وقف الهجمات مردّه الى أن الإدارة الأميركية ترى في الأكراد، خصوصاً في سوريا والعراق، شريكاً أساسياً فعّالاً ومُجرّباً، في الحرب على “داعش”.
في المحصّلة، يرى معارضو أردوغان أن خطته للذهاب إلى انتخابات مبكرة تعيد حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة بشكل منفرد يسمح له بالتحكّم بقرار البلاد، استلزمت حرباً على الأكراد، وتجاهلاً للإرادة الشعبية التي أعطت كلمتها في الانتخابات التشريعية الماضية، وكانت رغبتها الحكم بالشراكة على عكس رغبة أردوغان. فهل ستنتصر رغبة الرئيس على رغبات الشعب؟
نقلاً عن موقع العهد