بعد أن تبيّن أنّ الانسان مسافر إلى الله تعالى، وكادح كدحاً للوصول إليه والقرب منه واللقاء به، وأنّ ذلك لا يتحقّق إلاّ من خلال اتباع القرآن والعترة الطاهرة اللذين هما حبل الصعود إليه سبحانه، أشار القرآن إلى زاد هذا السفر الالهي حيث قال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الاَْلْبَابِ)( [40]).
قال الفخر الرازي في ظل هذه الآية: «إنّ المراد: وتزوّدوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). وتحقيق الكلام فيه أنّ الانسان له سفران:
سفر في الدنيا.
وسفر من الدنيا.
فالسفر في الدنيا لابدّ له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال. والسفر من الدنيا لابدّ فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله ومحبّته والاعراض عمّا سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الاوّل لوجوه:
الاوّل: أنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة من عذاب متيقّن.
الثاني: أنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة من عذاب دائم.
الثالث: أنّ زاد الدنيا يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام والاسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرّة، آمنة من الانقطاع والزوال.
الرابع: أنّ زاد الدنيا وهي كلّ ساعة في الادبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كلّ ساعة في الاقبال والقرب والوصول.
الخامس: أنّ زاد الدنيا يوصلك إلى منصّة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنّ خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى تفسير الآية: فكأنّه تعالى قال: لمّا ثبت أنّ خير الزاد التقوى، فاشتغلوا بتقواي يا أُولي الالباب، يعني إن كنتم من أرباب الالباب الذين يعلمون حقائق الامور، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبّكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد، لما فيه من كثرة المنافع. وقال الاعشى في تقرير هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا»( [41])
وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ خير مطيّة يمتطيها الانسان، لكي يصل إلى هدفه، هو قيام الليل. فقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)( [42]). وقال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)( [43]).
قال الطباطبائي في ظل هذه الآيات: «المراد بقيام الليل، القيام فيه إلى الصلاة. وقوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم، والآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: «قم الليل» فتفيد بمقتضى السياق، والخطاب خاصّ بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ أمره بقيام الليل والتوجّه فيه إليه تعالى بصلاة الليل، تهيئة وإعداد لكرامة القرب وشرف الحضور وإلقاء قول ثقيل، فقيام الليل هي السبيل المؤدّية إلى هذا الموقف الكريم»( [44]).
لكن عندما أراد أن يوسّع الخطاب ليشمل غير النبيّ من المؤمنين، بعدما كان صدر السورة مختصّاً به (صلّى الله عليه وآله) قال: (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)( [45]). حيث إنّه من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدّم في أوّل السورة من الآيات الحاثّة إلى قيام الليل والتهجّد فيه، لذا ورد عن الامام العسكري (عليه السلام): «إنّ الوصول إلى الله عزّوجلّ سفر لا يدرك إلاّ بامتطاء الليل»( [46]).
فتحصّل إلى هنا أنّ أفضل مركوب يمتطيه الانسان للسير إلى الله تعالى واللقاء به هو قيام الليل، وأنّ أفضل الزاد هو التقوى، وأنّ أفضل طريق هو الصراط المستقيم. وبهذا يتّضح دور التقوى في حياة الانسان، وأين موضعها في منظومة المعارف الدينية، إذ كثيراً ما يقع الحثّ على التقوى من دون أن يتّضح للسالك إلى الله تعالى موقع ذلك وموضعه.