فاجعة الحجيج تزداد غموضاً والسلطات السعودية تزداد تعنتاً. هي تتهم الحجاج بالتسبب في مقتل أنفسهم. وترفض الكشف عن المعلومات، كما ترفض مشاركة أي جهة في التحقيق. والمفارقة أن هناك مئات المفقودين مجهولو المصير، إلى جانب القتلى والجرحى بالمئات. مطالبات كثيرة بكسر احتكار آل سعود شؤون إدارة الحج. والسبب بديهي: آل سعود يتحملون مسؤولية الفاجعة
هو الأسوأ في غضون خمسة وعشرين عاماً، والثاني، حتى الآن وقبل الإعلان عن الأرقام النهائية لعدد الضحايا، من حيث عدد الضحايا بعد حادث نفق المعيصم عام 1990 الذي أودى بحياة أكثر من 1400 حاج معظمهم من الحجاج الآسيويين. وهي ثاني أسوأ مأساة في موسم الحج خلال نصف قرن، بعد حريق منى في كانون أول 1975، حين قضى المئات من الحجاج حرقاً أو خنقاً.
وبخلاف الحوادث السابقة، فإن ثمة ما يضفي خصوصية على مأساة منى هذه المرة، أن ثمة رواية ـ بل روايات أخرى ـ غير رسمية، إذ لم تعد الحكومة قادرة على احتكار الصورة وتالياً الرواية، وهذا ما جعلها تسارع الى مصادرة الكاميرات المرصودة بالقرب من مكان الحادث، واعتقال أصحابها حتى لا تتسرب مشاهد تقوّض الرواية الرسمية، أو ما عملت السلطات السعودية على حياكته من رواية بعد وقوع المأساة.
حتى اللحظة ليس هناك، وبحسب المصادر الرسمية، ما يمكن التعويل عليه بخصوص أعداد الضحايا، فهي مرشّحة للتزايد، بالنظر الى الأعداد الكبيرة من المفقودين والحالات الخطيرة من الجرحى. وبحسب مصادر طبيّة في مكة: حتى ليل الأحد الماضي جرى الإنتهاء من فرز 955 جثّة إلى الآن، وبقيت هناك 1250 جثة جرى إخراجها من البرادات… ونقلت طبيبة سعودية رفضت الكشف عن إسمها تعمل في مستشفى الحرس الوطني أن أعداد الضحايا تجاوز 2000 وهناك تكتّم من قبل السلطات السعودية.
في موقف استباقي بدا شديد الإضرار بالسلطات السعودية أكثر من أي طرف آخر، تواطأت فضائيات سعودية على تعميم رواية تقوم على تحميل الضحايا مسؤولية الحادث بدعوى عدم الالتزام بإرشادات السير، ولكن رواية كهذه بدت أقرب الى الإدانة للسلطات السعودية منها الى تفسير ما جرى، لكونها تنطوي على إقرار بفشل الخطط الميدانية، التي يفترض ان تكون مصمّمة لتفادي مثل هذه الحالات المزعومة، عن طريق تكثيف الارشادات وتنويعها وتوزيعها بكثافة على طول مسارات حركة الحشود. ما يزيد الأمر التباساً وارباكاً فتوى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، المفتي العام للمملكة السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء نشرت في صحيفة (عكاظ) بعد يوم
واحد من مأساة منى أن «تعمّد الموت في الأماكن المقدسة يعد انتحاراً». وأرفق الفتوى بطائفة إرشادات للحجاج بالالتزام بقوانين السير، وختم حديثه بإعلان نتيجة التحقيق قبل بدئه «فما حصل مقدّر وكان بسبب التدافع..» بحسب قوله.
من جهة ثانية، لا يكفّ بعض المفتونين من الكتّاب السعوديين بالتشابك السياسي بخلفية طائفية عن استحضار الصراع الايراني السعودي، والتشديد على الدور الايراني في سوريا للرد على مطالبة ايران للسعودية بالاعتذار لمصرع الحجاج بفعل خطأ بشري. وإذا كانت مقاربة من هذا القبيل سوف تنتج حلاً، فبإمكان الآخرين استحضار المشهد اليمني بكل الاقترافات الشائنة للنظام السعودي. وفي النتائج، أن مقاربات الإعلام والمفتي والكتّاب السعوديين تزيد في تشويش وتشويه المشهد أكثر من إيضاحه، لأننا أمام قضية تتطلب تحليلاً عميقاً وميدانياً.
الاعتصام بذريعة عدم التزام الحجيج تعليمات السير لم يمنح السلطات السعودية شهادة براءة، فلا الحجيج، ولا المراقبون، ولا علماء النفس المختّصون في إدارة الحشود يجدون مبرراً لتكرار المآسي، واستخدام كلمة «التدافع» تقترب من الفعل العمد وغير الواعي لدى الحجاج، وهو سبب في حد ذاته، حتى على صحة وقوعه، غير كاف لتفسير سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، ما لم تكن هناك أسباب أخرى أفضت الى التدافع، أي باعتباره نتيجة لا سبباً.
شاهد عيان
كنت انا وزوجتي واثنان من أبناء عمي في قلب الحدث ولم نر أي تدافع من الإيرانيين ولا حتى الافارقة، بل إن الشرطة السعودية هي التي أجبرتنا على المرور بالقوة في الممر الضيق بين المخيمات، و تراصصنا الواحد منا تلو الاخر في نطاق ضيق والفوج من آلاف الحجاج لا يمكن أن يمر، وتدافع الحجاج بسبب ازدياد العدد وعدم انسيابية المرور، في هذه الاثناء شاهدت بعض الحجاج يفسخون إحرامهم بالكامل ويصعدون فوق المخيمات عراة هرباً من الموت، وأنا وزوجتي حصلنا على منفذ باب حديدي كان مقفلاً في البعثة التونسية، وقدرنا أن نفتحه بالقوة ودخلنا في البعثة التونسية ونحن نتنفس الصعداء. و كتبت لنا النجاة بحمد من الله. أما أبناء عمي فكانوا
في المقدمة ودهسوا الموتى بأرجلهم حتى قدروا أن يخرجوا بشق الأنفس.
هذا ما شاهدته بأم عيني والله على ما أقول شهيد.
الحكومة السعودية لا تريد ان تلوم نفسها في ما حدث وترمي اللوم وتتهم الغير بما حدث.
كتبته بيدي في يوم الاحد ١٣ من ذو الحجة ١٤٣٦هجري. الموافق ٢٧ سبتمبر ٢٠١٥
محمد بن ناصر بن سعيد الحبسي