وبعد هجرة السيد الكشميري إلى إيران بقي قلبه متعلقاً بالنجف الأشرف، وكان يلهج بذكراها دائماً: يقول تلميذه السيد علي أكبر صداقت: كان أحياناً يصف النجف وكأنه لا يوجد في الدنيا مدينة سواها، فكان يقول: إن كل إيران لا تعادل النجف. وهنا نتذكر مجنون ليلي الذي كان يلهج بذكر نجد وهي الأرض التي تسكن فيها ليلى، بل كان يقبل أحيانا ترابها ويقول إن فيها رائحة ليلى.
يقول السيد الكشميري: النجف شيء آخر، وحتى مساجدها الصغيرة لها معنوية خاصة لا تضاهيها حتى مساجد إيران الكبيرة كمسجد كوهرشاد في خراسان.
ويقول أيضاً: ثلاثمائة وستون نبياً مدفون في النجف، ولكن دفن في كربلاء مائتان وستون نبياً فقط، وقبر نبي الله آدم ونبي الله نوح عليه السلام إلى جنب قبر أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاء في زيارة عليه السلام (السلام عليك يا مولاي وعلى ضجيعيك آدم ونوح).
نعم فالنجف هي الأرض التي حفر فيها نبي الله نوح عليه السلام قبر أمير المؤمنين قبل سبعمائة عام من الطوفان، وهو القبر الذي زاره أحد عشر إماماً، واليوم يذهب بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف لزيارة جده عليه السلام. ويظهر من الروايات أن زيارة أمير المؤمنين عليه السلام أكثر ثواباً من زيارة الأئمة الآخرين.
إن مكانة النجف رفيعة إلى درجة أن شخصاً مثل المرحوم الشيخ زين العابدين المرندي المسلم الاجتهاد ومن أهل التقوى كان يأتي أحياناً ويجلس في باب صحن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يجلس المتسولون، وحينما يقال له: يا شيخنا إن جلوسك في هذا المكان قبيح ولا يليق بك، كان يقول: إن هذا المكان يمر منه إمام الزمان عجل الله فرجه الشريف والخضر عليه السلام إلى حرم أمير المؤمنين عليه السلام، وأنا جالس هنا لعلهما يلتفتا إلي وتشملني عنايتهما.
إن أهم معالي النجف الأشرف هو ضريح أمير المؤمنين عليه السلام، وكان السيد الكشميري يواظب على زيارته في كل يوم منذ صغر سنه. تقول زوجته متحدثة عن برنامجه اليومي: كان يصلي الفجر في البيت، وبعد أن ينتهي من تعقيبات يبدأ بالمطالعة والتدريس. ويصلي الظهر في أغلب الأحيان في مسجد السوق الكبير، ويخرج من البيت أيضاً قبل الغروب ويصلي صلاتي المغرب والعشاء في صحن أمير المؤمنين عليه السلام وبعدها يجلس في الصحن الشريف قرب مقبرة جده يتباحث مع أقرانه، ثم يذهب في الليل إلى وادي السلام ويبقى هناك إلى منتصف الليل مشغولاً بالعبادة.
ويقول السيد الكشميري: كانت إذا عرضت لي مشكلة أذهب إلى صحن أمير المؤمنين عليه السلام وأقرأ سبع مرات (ناد علياً…) فتحل هذه المشكلة.
ويقول الحاج صاحب عضد الله الذي رافق السيد الكشميري خمسة وعشرين عامً في النجف الأشرف: تعرضت في إحدى الأيام إلى مشكلة كبيرة فقلت للسيد الكشميري: يا سيدنا أين أذهب فإن مشكلتي صعبة جداً؟ فقال لي: لا تقل صعبة فإن حلال المشكلات هو أمير المؤمنين عليه السلام، وأنا أريد الآن الذهاب إلى الحرم فإن كنت راغباً فتعال معي. فقلت له: الآن عندي شغل. فقال: اترك عملك وتعال معي. فذهبنا سوية ووقف يقرأ الأدعية من غير أن يفتح كتاباً، وقال لي: أدعو أنت أيضاً وتوسل بأمير المؤمنين عليه السلام وستحل مشكلتك. وعندما دعوت وخرجت من الحرم رأيت مشكلتي قد حلت.
ويقول السيد جواد صهر الكشميري: لقد حدث مرات عديدة أن دعوته للذهاب إلى وسط الكوفة حيث الماء والخضرة والأشجار، ولكن بعد فترة من جلوسه يقول لي: إن قلبي ينقبض هنا، فيرجع إلى النجف حيث درجة الحرارة تتراوح بين 45-50 درجة ويجلس في صحن أمير المؤمنين عليه السلام وينظر إلى الضريح، وكلما قلت له: أفي مثل هذا الحر؟ كان يقول هنا الحياة إن روحي تتجدد هنا.
وكان عندما يذهب إلى الحرم يبدأ بالحديث مع أمير المؤمنين عليه السلام منذ دخوله الباب، ويناجيه بهدوء وخفية، وبصوت عال تارة أخرى ويستغرق حديثه معه وقتاً أطول لو دخل الحرم أو وصل إلى مقابل الضريح وكان عندما يصل إلى الحرم يدخل بأدب ويجلس في زاوية تحت قدمي أمير المؤمنين عليه السلام، ويستغرق مع نفسه ويتلو زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، على ظهر الغيب:
السلام علي أبي الأئمة وخليل النبوة والمخصوص بالأخوة
السلام على يعسوب الدين والإيمان وحكمة الرحمن
السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال…
وعندما تقترب ذكرى شهادة أمير المؤمنين عليه السلام تتغير أحواله، ويبتعد عن الآخرين ولا يخرج من الدار، ويقول فقط: عندي شغل، ويخفي حاله عن الآخرين.
وعندما اضطر إلى الهجرة من النجف إلى قم كان دائم للنجف، وكان لسانه يردد دائماً يا أمير المؤمنين علي. تقول زوجته: عندما جئنا إلى إيران كان يذكر النجف دائماً، ويردد لسانه اسم علي عليه السلام في كل أحواله، وكان يكثر من قول (يا جداه) ويتباهى بذلك، فكنت أقول له أحياناً من باب المزاح: إنك تقول (يا جداه) بنحو وكأن علي عليه السلام جدك فقط وليس له أولادك سواك! وكان كثير التعلق بأمير المؤمنين عليه السلام وكان يعتقد في علي عليه السلام اعتقاداً فيه اُبهة وعظمة خاصة. وكان يحب كثيراً زيارة عاشوراء وزيارة أمين الله، وخاصة زيارة أمين الله والتي كان يرددها حتى في النوم، أي أنه كان نائماً ومع ذلك كان لسانه يتلوها، ولا أدري ما هي الحالة التي كان عليها، فلعله كان يذهب لحرم أمير المؤمنين عليه السلام ويقرأ الزيارة له وهو في عالم النوم.
شاهد أيضاً
الطريق إلى الله تعالى للشيخ البحراني50
22 وقد قال رسول الله (ص) لبعض أصحابه وهو يشير إلى علي (ع): ( والِ ...