شكراً جزيلاً لكم، وشكراً لدعوتي إلى مركز الإمام الخميني للكلام عن الإمام علي كرم الله وجهه، شرف كبير لي أن أكون معكم، شرف كبير أن أحاضر في مركزٍ يحمل اسم الإمام الخميني، الذي أشعر أنني مدين له شخصياً، إذ أنه ومن معه يتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية تحرير أرض الجنوب.
ثم طبعاً حين أتحدث عن موضوعٍ يخص نهج البلاغة في مركز الإمام الخميني فإنني لا أكتمكم، أشعر كمن يبيع الماء في حارة السقائين حسب ما يقول المثل المصري الشهير، لكن يشجعني فيما أقدم عليه أن هناك رجالاً أفذاذاً تعلموا ونهلوا من نهج البلاغة، من أمثال الأستاذ جورج جرداق بولس سلامة وغيرهم كثير.
الحكم الصالح وعهد مالك الأشتر
دعيت لأتكلم عن علي بن أبي طالب وحقوق الإنسان، لكن بعد أن أعملت الرأي قلت لعلي أتكلم في فرع من فروع الإنسان، بفرعٍ يدعى الآن وتدعوه الأمم المتحدة الحكم الصالح، وهو فرع من فروع حقوق الإنسان تخص حقوق الإنسان الفرد، لكن لا يستطاع
________________________________________
1- رئيس لجنة حقوق الإنسان في سوريا.
أن يؤتى الفرد حقوقه إذا لم يكن الحكم صالحاً لتأدية هذه الحقوق، والأمم المتحدة تعمل الآن كثيراً بهذا الموضوع، خطر لي أنني إن ركزت على عهد الإمام علي إلى مالك بن الأشتر فسيكون ما أقدم عليه إسهاماً في متابعة الشؤون الدولية لتعريف ما هو الحكم الصالح؟ ثم لعلنا نستطيع أن نقدم على شيء وهو أن نتحدث بلغات أجنبية عن عهد الإمام علي إلى مالك بن الأشتر، تغذية دولية لمفهوم الحكم الصالح في الأمم المتحدة، ذلك أن إعجابنا بمن هم أفذاذ في تاريخنا لا ينبغي أن يقتصر علينا، بل واجبنا أن نعمم العلم بهم في العالم كله، والأمم المتحدة تشهد ثورة وحماسةً شديدة في مفهوم الحكم الصالح الأن، فلنأقلم قراءتنا لعهد الإمام علي إلى مالك بن الأشتر تحت إطار الحكم الصالح.
من الواجب إذاً قبل كل شيء توجيه تحية إلى كل معنيٍ بتراثنا الحضاري وبإحياء الدروس المستفادة منه، وبتوظيف تلك الدروس في معالجة ما نحن فيه، وفي هذا الإطار يأتي توجيه سماحة القائد السيد علي الخامنئي للاحتفال بذكرى الإمام علي خطوة ممتازة تستلهم التراث للنظر في المستقبل، وكأن هذه الخطوة تجانب اتجاهاً يقف عند التراث ليقدسه ويتغزل بمحاسنه ويتمنى العودة إليه بل ويحاول تجاهل الظروف الراهنة ليعيد خلق الماضي في الحاضر، مثل هذا الاتجاه يتضمن في حَدِّه الأقصى فصاماً يمضي بصاحبه إلى عالم وهمي، فيصبح التراث وثناً يُعبّد لا مرشداً ينبض بالحياة.
وأقوال الإمام علي شأنها شأن المأثور في تراث العرب
والمسلمين، بل وفي كل تراث، تتعالى على الموقف الذي فيه قيلت، يتجاوز الإمام في أقواله لحظة القول وظرفه، ليعبّر عن المخزون الحضاري من جهة، وليستخلص من هذا المخزون من جهة ثانية مرشداً للعمل في ظرفٍ لاحق، يصلح أن يستلهم دون أن يخل بتغير الأزمان وما تقتضيه من تغير الأحكام، وكان الإمام علي رائداً في التنبه إلى حقيقة التغير حين نصح بأن لا نعلم أولادنا علمنا فإنهم مخلوقون لأزمنة غير أزمنتنا.
بيني وبين نهج بلاغة الإمام علي صحبة واشجة قديمة، كانت رائعة النهج ومعها روائع العرب والمسلمين والديانات أعمالاً نشأت عليها، أنا علماني، وأقول هذا أمام من يرى بالعلمانية شراً، بعضكم وأنا لا أرى فيها شراً، لكن عموماً لست رجل دين، والعلماني في المقتضى المسيحي هو من ليس لابساً ثوب رجل دين، فالتحديد التابع لها دقيق، ولعل أول من زرع في النفس تلك الثنائية في ماضوية القول وراهنيته بل ومستقبليته، أستاذ جليل من صافيتا هو الأستاذ رفيق المقدسي جبور، حين نبَّه طلابه الصغار في الإعدادية وكنت في عدادهم إلى أن إشارتنا إلى كلام علي وإلى كلام غيره من الروائع لا ينبغي أن تسبق بفعلٍ ماضٍ بل بفعلٍ مضارع، كان علينا بمقتضى رأيه أن نتحاشى صيغة قال الإمام علي، وأن نتجاوزها إلى صيغة يقول الإمام، يبقى القول الحق مضارعاً هكذا كان يقول، وأضيف من نهج الإمام ثم علينا أن لا نغفل تغير الأزمنة.
والقراءة التي أقدمها اليوم في عهد الإمام إلى مالك بن الأشتر عامله في مصر، تتوخى تبيان ما احتواه ذلك العهد من مبادئ نطلق عليها في أيامنا هذه اسم مبادئ الحكم الصالح، والتعبير أحد
التطورات المتفرعة عن التعبير الأم حقوق الإنسان. ماذا نفعل حين نقرأ عهد الإمام إلى مالك بن الأشتر ؟
أنا أخذت لدي عدد من المطبوعات التي تذكر عهد الإمام، لكن أحببت أن أختار مرجعاً غير شيعي، مرجع الإمام محمد عبده في تحقيقه لنهج البلاغة كما نشرته دار ومطابع الشعب في مصر (لا تاريخ للنشر)، والنص هو من شرح الإمام الشيخ محمد عبده، ومن تحقيق وتعليق محمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنّا، يقع العهد بين الصفحتين /323/ و /348/ هوامش وشروح تعادل النص في الحجم تقريباً.
ليس أفضل نص للعهد لكنه نص منتشر أكثر من النصوص التي طبعت في طهران مثلاً أو في لبنان، ربما مصر تبقى الناشر الأول، ودار ومطابع الشعب كانت تصدر كتباً دينيةً وكتباً تراثية واسعة الانتشار جداً، والطبعة التي لدي لا تاريخ عليها، لكنني اشتريتها مباشرة اثر صدورها في عام 1971.
ماذا فعلت بالعهد؟
وأنا جديدٌ العهد بالعهد، بالمقارنة مع عهدٍ انتهت كتابته عام 400 هجرية، وتعاقب على قراءته وتدارسه عددٌ كبير من الشيوخ الأجلاء، فرّغوا له من وقتهم أكثر مما فرَّغت، فماذا فعلت ؟ أحببت أن أضع فقرات للعهد، ولعل العهد إذا ترجم، ولا أدري إن هو ترجم سابقاً، يترجم مفقراً حتى تسهل المقارنة بين الفقرات في الترجمة وفي الأصل. يقع العهد كما أحصيت في نحو 5000 كلمة، ونظرت في طبعة دار ومطابع الشعب في مصر فوجدت أنها تقع في 74،
فقرة والعهد إلى مالك بن الأشتر موصوفٌ من قبل الشيخ الإمام محمد عبده بأنه أطول عهدٍ وأجمع كتبه، كتب الإمام للمحاسن، وقد تضمن العهد الأفكار التالية: وقعت على 25 فقرة في هذا العهد، وأحب أن أقرأ لكم رؤوس هذه الفقرات كما وضعتها، وبعض ما ورد فيها من العهد، ثم أنتهي بمطالعة وختاميات الفقرة الأولى هي في هدف الولاية، ما هو هدف الولاية؟
في مبادئ عامة توجه الوالي
جباية الخراج، جهاد العدو، استصلاح الأهل وعمارة البلاد.يعني شيء جميل عمارة البلاد إصلاح الأهل، ثم تليها عشر فقرات في مبادئ عامة توجه الوالي، أول هذه المبادئ تقوى الله وإيثار طاعته، تليها ثانياً كبح جماح النفس، فإن النفس أمارة بالسوء، ومن هذه المبادئ رحم الرعية ومحبتهم، وفي هذه الفقرة ترد تلك الكلمة التي تذكرنا بأولى مبادئ حقوق الإنسان، دالة على المساواة بين البشر يقول الإمام: “ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
ثم أنه يحذر واليهم من الاغترار بالإمرة “لا تقولن مؤمرٌ آمر فأطاع”.
ومن إحداث السلطان له أبهة أو مخيلة تجعله يشتبه بالله في جبروته، ثم ينبهه إلى إنصاف الناس من نفسه ومن خاصة أهله وممن له هوىً في الرعية، ويتابع الفكرة نفسها في فقرات تالية مميزاً بين الخاصة والعامة، مما يجعله رائداً في الدراسات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يقول الإمام: “وليكن أحب الأمور
إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة”.
إذاً العامة هم الأصل، يعني هذا مذهب الديمقراطية بشكل واضح جداً، ثم أنه يميز بين الخاصة والعامة في ردود فعلهم على الوالي فيقول: “وليس أحدٌ من الرعية أثقل علىالوالي مؤونة في الرخاء،وأقلُّ معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة”، وللعامة أخلاق أخرى، “وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صغوك لهم وميلك معهم”.
ثم هناك فقرتان في ذم السعي ضد الناس
يوصي الإمام عامله بإبعاد من همهم النميمة وكشف العيوب، “وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها…”.
وينهى الإمام عامله عن تصديق السعاة: “ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين”.
وفي هذه الفقرة نفسها ينهى الإمام واليه عن الأخذ بمشورة البخيل والجبان والحريص، فيقول: “ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله”.
كيف تختار البطانة ؟
نهى الإمام عامله عن جعل من كان وزيراً للأشرار بطانة له، يقول الإمام:ونصح الوالي بكفية اختيار البطانة، “إن شر وزراءك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا تكونن لك بطتنة، فإ‘نهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه؛أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً، فأتخذ أولئك خاصةً لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع ولاصدق: ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة”.
ثم هناك فقرات في الإحسان واتباع السنة الصالحة، لكن ثمة فقرة عن المدارسة والمثاقفة، يقول الإمام لعامله: “وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك”.
تصنيف الرعية إلى طبقات
يقول الإمام: “واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض”.
ثم أنه وصف هذه الطبقات بأن “منها جنود الله ومنها كتّاب
العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة”.
ماذا يقول الإمام عن الجنود؟ للإمام في هذا المقام كلام له أهمية خاصة، فمن صفات قيادة الجند أن يكون القائد ممن يبطئ عن الغضب ويرأف بالضعفاء وينبو عن الأقوياء أي لا يخضع للأقوياء، ثم أنه يتابع وصف فن قيادة الجند، فيوصي عامله كما يلي: “وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو…”.
فحقيقة هذه نظرية هامة جداً، ممتازة في كيفية بناء الجيش، ويتوقف الإمام عند تقدير الجنود فيوصي الوالي: “ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمّنّ بلاء امرئ إلى غبره ولا تقصرن به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً”.
ثم لديه كلام هائل في القضاة، يقول: “اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمعٍ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه؛ وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم وأصرمهم عند افتضاح الحكم ممن لا
يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا”.
ثم أيضاً يتكلم في العمال والعيون، فيطلب الإمام من مالك ألا يولى العمال “محاباة وأثرة”.
كما يطلب منه أن يتوخى منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، كذلك يطلب منه أن يسبغ عليهم الأرزاق فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وفي هذا المجال يرى الإمام ضرورة بعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم. ماذا يحصل بعد بعث العيون؟ “فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه…”.
ثم يتحدث عن الخراج وعمارة الأرض بما يشبه مفهوم التنمية الآن يقول: “وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً”.
فلا نستطيع أن نصنع تنمية إذا كنا نريد أن نثقل الضريبة، علينا أولاً أن نصنع تنمية وبعدها نأخذ ضريبة.
وينصح الإمام بمد يد المؤونة للمواطنين لدى وقوع كارثة تعوق عمارة الأرض، ففي تخفيف المؤونة عن المواطنين ذخر يعودون به
عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك. ويتابع الإمام الفكرة نفسها فيقول: “وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، (يجمعوا المال) وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر…”.
هذا كلام جميل في الحكم الصالح، لا ريب أننا نحتاج إليه في كل زمان ومكان.
ظاهرة أمانة السر
ثم يتحدث عن هذه الظاهرة التي نشهد تفشياً لها في العصر الحديث، وهي ظاهرة أمانة السر “السكرتاريا”، للكتاب لمكتب الحاكم كما يدعى هذه الأيام دور خاص مليء بالصعوبات، وكم نرى من متحدثين عن خبرات لهم مع الحاكم ينسبون ما ينالهم على يد الحاكم إلى إشكالات مع المكتب، ولا ينسبونها إلى الحاكم مباشرةً، ولا سيما إن كانوا في وضعٍ يرجون به عودة فضل الحاكم عليهم.
هنا يختص الإمام الكتاب بقولٍ دقيق ثم انظر في حال كتابك “فولِّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ”.
من الممكن أن أحداً يشعر أنه أبطرته كرامته فيقول للوالي أنت قلت كذا وكذا في كتابك، يفضح السر، فإذن لا ينبغي أن يكونوا ممن تبطرهم الكرامة، نعم يلتزمون بالكرامة لكن لا تبطرهم الكرامة.
ويهتم الإمام علي بواجب الكاتب في حسن إيصال الوارد
والصادر بالحرف تقريباً، فعلى الكاتب أن “لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطي منك”.
وعلى الكاتب أن “لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدرة غيره أجهل”.
ولكن كيف يعيِّن الحاكم أمين سره ؟ هنا يحذر الإمام الحاكم باختيار الكتاب على الفراسة والاستنامة وحسن الظن. لماذا ؟ لأن الرجال الذين سيصبحون أمناء السر يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم. إذاً كيف ينبغي أن يتم الاختيار؟
يقول الإمام: “ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم في العامة أثراً” ليس في الخاصة، بل الذي تثني عليه العامة، بمن خدموا كمدراء مكاتب في السابق هم أفضل، “وأعرفهم بالأمانة وجهاً”. ولنلاحظ كيف يعود الإمام للعامة، فإنهم الأصل.
ثم يختم الإمام كلامه في الكتاب بمبدأ قانوني كبير من مبادئ حقوق الإنسان، ألا وهو مبدأ محاسبة المسؤول عن عيوب العاملين معه، يقول: “ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه أُلزمته” فأنت ملزم بمعايب من عمل معك.
ثم إنه يتحدث عن التجار، وكأنه يرانا ويراهم، “فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح”.
هذا كلام فيه إطراء، ثم إنه من جهة ثانية يقول: “واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيبٌ على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه وليكن البيع بيعاً
سمحاً بموازين عدلٍ وأسعاراً لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرةً “أي احتكاراً” بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف”.
الطبقة السفلى
ثم يتحدث عن الطبقة السفلى، والإمام علي إمام المستضعفين حقاً، وهو القوي في نفس الوقت، كأني به رجل حقوق الإنسان في معناه الآصل الأنبل، إنه القوي الذي مع الضعفاء والمظلومين، فلننظر يبتدئ الإمام كلامه عن الطبقة السفلى باندفاعة عاطفيةٍ لا أصدق ولا أجمل “ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى”.
يطالب الإمام بأن يحفظ مالك ما استحفظه الله من حقه فيهم، فيقول “واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكلٌ قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم” إذا ضيعت التافه لا تعذر بتضييعه، لأنك أحكمت الكثير عليك أن تعطي لكلٍ حقه ولا تهمل حق التافه، ثم إنه يوصيه بأن يفرغ لهم رجالاً ممن يثق بهم “مكتب خاص” من أهل الخشية والتواضع، يوكل إليهم رفع أمورهم إليه، إن هؤلاء الضعفاء أحوج إلى الإنصاف من غيرهم.
ثم يطلب الإمام تعهد أهل اليتم، أما ذوو الحاجات فيطلب الإمام من عامله أن يهتم بهم فيقول واجعل لذوي الحاجات قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله
الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك “لأن الفقير يخاف الحارس ويخاف الشرطي” حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتعٍ فإني سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: “لن تقدس أمةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع”.
ثم يوصي بأن يعطي العامل لهؤلاء هنيئاً ويمنع عنهم في إجمالٍ وإعذار.
ثم هناك ناحيةٌ هامة وهي ضرورة السرعة في بت الأمور حيث يلزم الإمام عامله بسرعة الاستجابة، فعلى العامل إصدار حاجات الناس يوم ورودها، ويؤكد هذا المعنى حين يقول لعامله “وأمضِ لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه”.
ثم هناك فقرات عن العبادات ينصح به بعدم تطويل الصلاة، حيث يقول: “صلِ فيهم كصلاة أضعفهم”.
ضرورة الابتعاد عن الاحتجاب
ثم هناك ضرورة الابتعاد عن الاحتجاب، واستمرار الاتصال بالناس، أي ما يدعى بالشفافية يقول الإمام عليه السلام: “فلا تطلولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علمٍ بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل”.
وفي هذه الفقرة شرح مرهف لما ندعوه اليوم بالشفافية، فالاتصال بالناس يجعل الناس يتصلون ويسألون العامل عن شأنه فيجيبهم، أما الاحتجاب فيولد سوء التفاهم.
ثم يتابع التحذير من الخاصة للوالي يقول: “ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحدٍ من حاشيتك وحامتك قطيعة…وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع”.
ويتابع الإمام وصيته بلزوم مكاشفة الرعية بأموره يقول: “وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك”.
ثم يتكلم عن الصلح وعن معاملة الأعداء وعن ضرورة الارتباط بالمعاهدات وعن تجنب حب الإطراء وعن أهمية حسن التوقيت فإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، وأهمية المساواة، إياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، ثم في ضرورة الابتعاد عن الغضب، وفي الختاميات ثمة كلامٌ جميل حيث يقول: “وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبةٍ أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه… وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة” ذلك ختاميات العهد إلى بن الأشتر”.
ختاميات كلمتي
فأما ختاميات كلمتي، فهي كلام مختصر بسيط، إننا أمام نصٍ متقدمٍ معاصر، لكن طبعاً أتساءل هل طبق؟ هل من الممكن تطبيقه؟
ولاية الإمام علي كانت بسيطة، ومالك بن الأشتر كان واليه الثاني، لا أدري كم استمر في الولاية، لا أدري إذا كان لدينا كيف
طبق هذا العهد، ثم كيف نتعامل مع النصوص العظيمة، وثم إنني أحب أيضاً أن أقول أن علينا أن نستفيد من هذه النصوص استفادة استنهاض وليس استفادةً حرفية، فالإمام وجهنا إلى أن لا نعلِّم أولادنا علمنا،لأنهم مخلوقون لزمنٍ غير زماننا، وبالتأكيد هذه الفكرة يلحُّ عليها كثيرٌ من دعاة حقوق الإنسان من المسلمين، وأخص بالذكر منهم صديقي الدكتور عبد الحسين شعبان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ولديه كتاب أرجو أن يكون بين يديكم ،هو الإسلام وحقوق الإنسان، وقد نشر هنا في لبنان، ولديه فصل خاص عن الإمام علي وحقوق الإنسان ،إذاً علينا أيضاً أن نتدارس عهد الإمام إلى مالك، أن نرسله إلى الحكومات الإسلامية، أن نرسله إلى الأمم المتحدة وإلى اليونسكو وإلى المعنيين بحقوق الإنسان والحكم الصالح، وبالطبع تعلمون أنني أتابع منذ مدة الكلام عن حلف الفضول، ووردتني عدة رسائل من شخصيات دولية تشيد بحلف الفضول، ثم إنني أحب وهي أول مناسبةٍ لي بعد أن عينت مؤخراً لمهمة دولية من قبل رئيس لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وهي بحث موضوع المتحدرين من أصل الأفريقي في العالم وكيف يعاملون و لا أدري حتى الآن ما صلاحيات اللجنة ،هل سنحقق في أمريكا مثلاً كيف يعاملون؟ أو سيطلبون مني أن أحقق في السعودية فقط مثلا؟
على كل حال أحب أن يكون لدينا جبهة إسلامية مسيحية لإنقاذ الحضارة. ثم لعلنا نفكر بعد 11/9 في أمرٍ لا بد إلا أن نفكر به,
وهو أمر كبير, تنزلت الدعوة الشريفة على النبي صلى الله عليه وسلم عام 610, بعد ثماني سنوات تحل الذكرى 1400 بالتقويم الميلادي لتلك الدعوة ألا ينبغي أن نبدأ منذ الآن العمل من أجل أن يحتفل العالم كله بالذكرى 1400 بالتقويم الميلادي لتنزل الدعوة , نحن الآن في العام 2002 ,ليس كثيراً أن نبدأ هذه الدعوة من الآن, الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في أوائل الثمانينات من القرن الماضي العمل لإقناع العالم بالاحتفال بالذكرى الخمسمائة لاكتشاف أمريكا ,نحن ذكرى 1400 سنة للديانة الثانية في العالم التي تمثل أكثر من ربع سكان البشرية ينبغي أن نبتدأ العمل منذ الآن, ينبغي أن نحض الولايات المتحدة والهيئات الدولية على اعتبار عام 2010 عاماً هاماً في تاريخ البشرية لأنه ذكرى 1400 في التقويم الميلادي لبدأ الدعوة ,وهكذا يمكن لنا أن نصد شيئاً من الهجمة التي تتوالى علينا يوماً بعد يوم قبل 11/9 وتشتد يوماً بعد يوم بعد 11/9 شكراً جزيلاً وعدم المؤاخذة.