الرئيسية / تقاريـــر / روسيا والحلف المقاوم يسقطان المشروع العثماني…- مصطفى قطبي

روسيا والحلف المقاوم يسقطان المشروع العثماني…- مصطفى قطبي

ظهرت حالة الاضطراب القصوى على أداء صانع القرار السياسي التركي في الآونة الأخيرة بشكل جلي كما لم يكن جلياً في السابق. فانقلاب المعادلات الميدانية والسياسية لصالح الدولة السورية، أفقد أردوغان صوابه، وعاد مجدداً إلى تكرار اسطوانته المشروخة واجترار نغمة ”المناطق العازلة”، والتي تقلصت إلى عمق عشرة كلم، أو ”إقامة منطقة حظر طيران”، ليستغلها لإيجاد ملاذ آمن لعصاباته التكفيرية التي تتلقى الضربات الموجعة والهزائم المتوالية على يد الجيش العربي السوري، ومن أجل إبقاء خطوط الإمداد لهذه العصابات مفتوحة للحيلولة دون انهيارها التام.

لم يترك أردوغان خلال السنوات الأخيرة وسيلة قذرة إلا واستخدمها، وعلى الرغم من الخيبات المتلاحقة التي مُني بها مشروعه الإخواني يمضي في محاولات العبث بأمن واستقرار المنطقة، معتمداً في ذلك على الغرب الاستعماري، وعلى عضوية بلاده (بالأطلسي)، وعلى حاجة الأخير لموقع تركيا المهم بوابة للأطلسي يتطلع لاستثمارها باتجاه الشرق والشمال، لتهديد محور المقاومة من جهة، ولتهديد روسيا من الجهة الأخرى.‏ والآن يهدد التركي، مثلما هدد في السابق حين قال إن حمص خط أحمر، فأسقطها الجيش العربي السوري، فرد بالقول إنها حماة خط أحمر، فإذا بجيش سوريا يسقطها، فعاد يقول إنها حلب هذه المرة، فها هي تعيش على وقع اقتراب جيش سوريا العظيم، واليوم يقول إن اعزاز ممنوع سقوطها، ولكنها ستسقط أيضاً…

تركيا الأردوغانية، تنظر إلى الجميع كأدوات لها من أجل تحقيق طموحاتها، فهي تريد من المجموعات المتشددة القضاء على المكون المادي في خوفها التاريخي من الوجود القومي الكردي في المنطقة والقضية الكردية كلها، وفي الوقت نفسه تريد من محاولة جلب الأكراد لديها إلى دفع الأكراد إلى الانخراط في العمل العسكري ضد الدولة السورية في إطار السعي التركي لإسقاطها، وفي جميع الحالات تريد ترتيب المشهد السوري المستقبلي وفقاً للمصالح التركية العليا التي ترى في سورية حديقة للعثمانية الجديدة وجسراً لطموحاتها الإقليمية.‏

وحدها المنطقة العازلة التي يجري الحديث عنها يمكن أن تنقذ أردوغان ومعه الدور الإقليمي التركي، فهي تعني من جهة إمكان استمرارية الحلم الأردوغاني، إذ إن قيامها سيعني منع الأكراد من السيطرة على الجيوب الجغرافية التي تسيطر عليها الميليشيات المدعومة تركياً، الأمر الذي يضمن لأنقرة وصول دعمها إلى تلك المجموعات ومن جهة أخرى فإن أردوغان يرى أن المخاطر الناجمة عن التنظيمات الإسلامية المتطرفة هي أقل بكثير من المخاطر الناجمة عن الأكراد الانفصاليين. وفي هذا السياق واصل النظام التركي جرائمه بحق السوريين وانتهاكه الصارخ للقانون الدولي ودعمه للتنظيمات الإرهابية التكفيرية وأوعز مجدداً لوسائل إجرامه من المدفعية الثقيلة بالاعتداء بالقذائف على الأراضي السورية في ريف حلب الشمالي بدءاً من 14 ـ 18/2/2016 في تحد صارخ للإرادة الأميركية، تريد (أنقرة) بذلك إيصال رسالة إلى واشنطن مفادها أن لا حصانة بعد الآن لحلفاء واشنطن على الأرض السورية، ولربما أرادت الرسالة الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير بمعنى آخر أن تقول: إن على واشنطن ألا تتوقع بعد اليوم من أنقرة سلوك الحليف بعدما أصرت الأولى على رفض مطالبها (+ مطالب الرياض) في قيام منطقة آمنة في الشمال السوري حتى بعد أن قبلت (أنقرة) بـ”ميني” منطقة آمنة تكون بعمق 10 كلم داخل الأراضي السورية على أن تضم بين حدودها مدينة إعزاز كما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي يلتشين آق دوغان 17/2/2016.

 
ويبدو أن مسار الأحداث في الأيام القادمة سوف يذهب نحو دور مركزي متزايد لهذه المدينة الأخيرة (إعزاز) الواقعة جغرافياً في سهل (مرج دابق) في استعادة رمزية لمعركة مرج دابق التي دخل الأتراك بعدها سورية 1516 ثم باقي البلدان العربية، ولربما أضحت مركز الثقل في التحولات الجارية الآن في الريف الحلبي، بل في المنطقة برمتها فهي اليوم تمثل نقطة تلاق للمناطق الكردية مع خط إمداد المعارضة السورية المسلحة المدعومة تركياً، الأمر الذي يبرر الحشود العسكرية الجارية للتحضير لمعركة الحسم فيها حيث ستحدد نتائج تلك المعركة حجم الأدوار لأطراف الصراع ـ ومن وراءهم ـ وبمعنى آخر سيكون من في يده مدينة إعزاز غير من خسرها.

الدولة العثمانية (الخلافة)، وبعد أن كانت (الرجل المريض) تتحول على يد أردوغان إلى (الرجل المجنون)، لذلك يريد أردوغان أن يجلس على طاولة اقتسام البلاد في لعبة الأمم الدائرة في المنطقة، وجنونه يوهمه ويصوّر له أنه سيكون صاحب القرار على المنطقة كلها. أطماع أردوغان باستعادة (الخلافة العثمانية)، هي صهيونية تريد سرقة بلاد الآخرين، وكما الصهيونية تقوم على خرافة شعب الله المختار، فإن صهيونية أردوغان تقوم على خرافة (الخلافة العثمانية)، التي اعتبرها أحمد داوود أوغلو قبل أيام بأنها الخلافة التي يطالب بها الجميع ويحترمها الجميع ـ والجميع هنا ـ نحن العرب والمسلمين. هذا الهوس الأردوغاني بالخلافة، جعلته يمارس الصهيونية بأبشع صورها، عندما يريد العودة إلى الماضي، إلى مطامع تركيا أيام سايكس بيكو، يومها طمعت تركيا بضم الموصل وحلب إليها ولم تنجح في تحقيق ذلك، واليوم ينتكس أردوغان إلى تلك الأيام مهاجماً سايكس وبيكو معتبراً أنهما جاسوسان تآمرا على الخلافة العثمانية.

 

ويرى أردوغان أن الظروف الحالية مواتية لتصحيح ما ارتكبه سايكس وبيكو عبر ضم ما هو أكثر من الموصل وحلب إلى سلطنة أردوغان، وخلافته العثمانية الإخوانية.

إن جنون أردوغان وأطماعه، نجدها مجسدة في خريطة نشرتها مدونة (Davar Dea) الإسرائيلية، هذه الخريطة تتحدث عن شكل سورية حسب الرؤية الأردوغانية ـ الإسرائيلية، ويظهر فيها ضم تركيا للمنطقة الشمالية السورية الممتدة من شمال اللاذقية مروراً بالريف الجنوبي لكل من إدلب وحلب والرقة… ومن يدقق في هذه الخريطة الصهيونية ـ الأردوغانية، يفهم كلام أحمد داوود أوغلو قبل أيام، عن المناطق الآمنة في سورية، ومن يدقق في الأماكن التي قال إنها تحتاج لتكون مناطق آمنة يجد أنها تحقق هذه الخريطة… وهكذا فإن التلاقي الصهيوني ـ الأردوغاني يكشف عن (صهيونية إسلامية جديدة) تحاول السيطرة على المنطقة.

تعرف أميركا ويعرف الأعضاء الآخرون بحلف الناتو أن لتركيا الإخوانية مشروعها الذي يتصادم في كثير من النقاط والمواقع مع المشروع الغربي ـ الامبريالي ـ الصهيوني المشترك، غير أن الغرب وأميركا يسعيان للتخفيف من حدة الخلاف مع أنقرة، ولتحجيم نقاط التصادم معها من خلال العمل معاً على تدوير الزوايا بهدف الاستفادة المشتركة من جميع مكونات المشهد الذي صنّعوه معاً خدمة لإسرائيل والأهداف المشتركة للجانبين.‏ المخطط الغربي ـ التركي ـ الصهيوني مستمر ولما ينته بعد، والخلافات التي تطفو حالياً هي خلافات سطحية بين هذه الأطراف لا تتعدى ربما الخلاف على ترتيب القضايا المطروحة، وقد يكون أهم برهان على ذلك هو انخراط الجميع بدعم التنظيمات الإرهابية تمويلاً وتسليحاً وتدريباً، فالمخابرات الأميركية والبريطانية والتركية هي من يقوم فعلياً بتزويد (داعش) و(جبهة النصرة) بالمعلومات والأسلحة، وهي من يتولى توجيه الإرهابيين ورسم خرائط تحركاتهم على الأرض، فيما تتولى دويلات الخليج التمويل وتسديد الفواتير.

لا شك أن الرفض الأميركي المتكرر للطرح التركي حول ”إقامة منطقة عازلة على الحدود التركية السورية” يؤكد أن المناخ الدولي ـ بشكل عام ـ يميل باتجاه استئناف العملية السياسية في سورية،
وما يعزز هذا التوجه ارتفاع مؤشرات التوافق الأميركي ـ الروسي حيال هذا الملف الذي شكل مأزقاً دولياً للجميع، ويؤكد بوضوح، أن البيت الأبيض والبنتاغون هما من يوزعان الأدوار على الحلفاء والأجراء والمرتزقة مهما حاول أردوغان وغيره رفع سقف ابتزازه، فواشنطن لا تريد في هذه المرحلة أن تتوافق مع ما يجاهر به أردوغان والذي قد يؤدي إلى تعقيد مهمتها في سورية التي تعمل عليها ولكن على مراحل وفق ما تخطط له وتضمره ولا تظهره إلا حسب تطور الأحداث.

ويمكن القول: إن العلاقات التركية ـ الأمريكية لم تشهد في تاريخها فترة أسوأ من الفترة الحالية حيث خرجت الخلافات إلى السطح واستعرت حرب التصريحات النارية على أعلى المستويات بين مسؤولي البلدين، وتولى أردوغان شخصياً تأجيج الخلاف بتصريحاته الأخيرة التي بدأها بالقول: إن ”على إدراة أوباما أن تختار بين حكومته أو حزب العمال الكردستاني” وتبعها بالقول ”إن السياسة الأمريكية حوّلت الشرق الأوسط إلى بركة دماء بدعمها الأكراد”.

لقد تجاهل أردوغان العلاقة المتينة التي تربط الولايات المتحدة بإقليم كردستان في مجالات متعددة، إذ إن واشنطن تعتبر هذا الإقليم قوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها وتوظيفها في عدة اتجاهات، كما تجاهل فشل واشنطن وحلفائها في تسويق المعارضة السورية المعتدلة (كما يسمونها)، الأمر الذي حفز الإدارة الأميركية إلى اللجوء إلى بدائل أخرى، أبرزها التشكيلات الكردية غير المناهضة لسياستها. وهكذا يتضح لكل من يراقب الموقف التركي الحالي أن لواشنطن اليد العليا في علاقة البلدين، نظراً لما تمتلكه واشنطن من أوراق ضغط فعالة ضد تركيا، الأمر الذي يعزز مصداقية تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين التي تقول بعدم التوصل إلى اتفاق نهائي مع أنقرة، وبقاء عدد من المسائل قيد البحث والمناقشة، لأنه لم يتم الاتفاق عليها، كذلك يمكن القول: إن التصريحات التي أطلقها بعض المسؤولين الأميركيين والتي شددت على ما سموه ”حق تركيا بالدفاع عن النفس” ضد هجمات حزب العمال الكردستاني توحي بإصرار واشنطن على تقييد حرية تركيا حول التعرض للأكراد داخل تركيا أو في سورية.

الموقف الأمريكي غير المؤيد لـ”المنطقة العازلة” التي يسعى إليها أردوغان وحكومته، يبدد حلم أردوغان العثماني بتوسيع إمبراطوريته الذي ما انفك يراوده منذ بداية الأزمة في سورية وقبلها، واشتغل كثيراً على تمهيد سبل تحقيقه، لكنه اصطدم بصمود سورية وحلفائها الذين أحبطوا كل مسعى لاستخدام ما يسمى ”الحظر الجوي” فوق جزء من أراضيها، أو اللجوء إلى مسوغات الضربات الجوية كما في قصة ”الكيماوي” حتى قدّم ”داعش” الذي نما وترعرع تحت أنظار سيده التركي المسوغات العملية للحلم الأردوغاني. فأنقرة تعلم علم اليقين، أن المنطقة العازلة أو التدخل البري في سورية تمثل عدواناً سافراً لن يتم السكوت عنه وسيواجه بما يناسبه، فالدخول في هذه المغامرة لن تكون نزهة للمقامر أردوغان. وقد حذرت إيران مؤخراً على لسان نائب وزير الخارجية الإيراني من أن أي تدخل بري في سورية هو عدوان يستدعي الرد عليه بشكل مباشر ولن تقف إيران موقف المتفرج مما يمكن أن يحدث.‏‏

ويأتي هذا التصريح ليرد على التهيؤات والنيات التركية المبيتة بالعدوان على سورية وليجعلها تعيد حساباتها قبل أن تقدم على أي مغامرة غير محسوبة العواقب، ويتقاطع الموقف الإيراني مع المواقف الروسية فيما يتعلق بالمناطق العازلة ونبهت موسكو من أن ذلك هو من اختصاص مجلس الأمن وأن على الولايات المتحدة الأمريكية عدم تجاوز ذلك أو التجاوب مع الرغبة العدوانية التركية ما يعقد الأمور بدل أن يساهم في مكافحة الإرهاب، ويعيد الأمور إلى نصابها في تنفيذ قرارات مجلس الأمن 2170 و2178 في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه والتي تعد تركيا من أكثر المعنيين في هذا القرار إضافة إلى مملكة الشر واللتين كانتا من أكثر الدول دعماً للإرهاب منذ بدء العدوان على سورية التي تحارب العدوان والإرهاب في آن معاً.

لقد بات واضحاً أن المواقف التركية لم تعد سراً، بل سرعان ما تتضح أن تركيا هي ضحية أيضاً وأن حرية تركيا التي ازدهرت خلال أعوام لم تعمر طويلاً، بل إنها مهددة بالموت، وأن تركيا قد تصبح قريباً ضحية الموعودين بدور بدل دور حقيقي كان يأخذ طريقة ليؤسس لعالم جديد عبر شرق أوسط جديد تتكافل شعوبه وحكوماته وتتنافس ولا تتنازع وتنهي مفاعيل الاستعمار وذهنية الاستعمار وأمراضه المزمنة، فالوعود التلمودية والأميركية والهولاندية والألمانية، لم تكن يوماً محل وفاء للشعوب، ولا للقيادات التي نصبوها على شعوبها.‏ قد يكون أردوغان واهماً من وجهة نظر أيديولوجية، فالمخطط الصهيوني الأميركي ـ الأوروبي يرمي لتقويض آخر نظام فكر ونهج غير طائفي في المنطقة وتغيير سلوك هذه الدولة لتنسجم مع الأنظمة المحيطة في المنطق لجهة تحويله إلى نظام طائفي وفسيفساء ومذاهب وعنصريات وقوميات.‏ لكنه يتناسى أن ”من بيته من زجاج لا يرمي جاره بالحجارة وأن ”أوروبية تركيا” مشكوك بأمرها وأطلسية تركيا معادية لعدالته وتنميته وأن الغرب يريد ”مسلماً” في الشرق لا في الغرب…

لذا فتركيا قد تكون مهددة في حريتها وفي بنيتها وفي جيوسياستها إذا خسرت سورية أو إذا تضررت في أمنها واستقرارها وبنيتها الاجتماعية، أما المتوهمون بأن الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن يقاتلوا ويضحوا لأجل عيون سوريين… لم يقرؤوا جيداً كتاب الأمير لميكافيل ولا التاريخ الحديث لعلاقة ثلاثي الاستعمار مع عملائه من فيتنام إلى لبنان ولم يقرؤوا أيضاً حكاية نابليون مع جاسوسه النمساوي والتي تشكل مدرسة في تعامل الفرنسيين مع من يخون وطنه.‏

وفي نهاية المطاف، لا بد للحكومات المستاءة من ”النظام السوري” أن تدفع ثمن التحول الدولي في حال أصرت على عدم تلقف المبادرات الروسية ـ كفرصة إنقاذ أخيرة لها ـ في إطار ما تبذله موسكو من جهود دبلوماسية خلاصتها تحفظ ”ماء وجه من ناصب العداء لسورية”. وما قاله ”فلاديمير بوتين” مؤخراً، حول رفضه للفوضى وعزم بلاده منع التنظيمات الإرهابية من السيطرة على الأراضي السورية، يترجم هذا المسار بالنظر إلى المعايير الروسية المحددة للسياسات الخارجية ومنها شرعية الأسد. إضافة إلى أن الاستراتيجيات المتبعة لدى حلفاء سورية ثابتة وقانونية قولاً وفعلاً: (أحد وجوهها وجود اتفاق روسي إيراني واضح وحازم: ”في حال الاعتداء على سورية يصار إلى تفعيل كل الخطط العسكرية التي كانت موضوعة ويتم تنفيذها تصاعدياً”.

شاهد أيضاً

الأجندات «الإسرائيلية» والخليجية المعدة لتقسيم المنطقة العربية…- مصطفى قطبي

منذ دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ بدأت دول المنطقة تتحرك باتجاهات مختلفة في محاولة ...