العبادة غاية الخلق
تكمن أهمّية العبادة في كونها طريق الوصول إلى الله سبحانه، فهي غاية خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
فالعبادة في الإسلام منهج متكامل المراحل والفصول، وطريق واضح المعالم. وغرضه تحقيق الكمال البشري: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ، وتنقية الوجود الإنساني من الشوائب والانحرافات، تمهيداً للفوز بقرب الله وتأسيساً لتحقيق رضوانه.
فعبادات الإسلام جاءت جميعها تزكيةً للنفس والبدن، وتطهيراً للذّات، وتنمية للروح والإرادة، وتصحيحاً لنشاط الجسد والغريزة. فهي بمثابة معراجٌ تتدرّج به النفس البشرية، مرحلةً بعد مرحلة، حتى يتمّ لها الصفاء والنقاء، فتستطيع الإطلال على عالم الآخرة، واستشفاف حقيقة الوجود، والتعالي على مكاسب الحياة الفانية، لسموّ مقام الآخرة وعلوّ غاياتها، وارتباطها بعالم الخلود والنعيم الأبدي.
فقد جعل الإسلام الصلاة تنزيهاً للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرساً لفضيلة التواضع والحبّ للآخرين… ولقاءً مع الله للاستغفار والاستقالة من الذنوب والآثام، وشحذاً لهمّة النفس وقيادتها في طريق التسامي والصعود. والصوم ترويضاً للجسد، وتقوية للإرادة من أجل رفض الخضوع للشهوات، والسقوط تحت وطأة الاندفاعات الحسّية.
والدعاء تنمية لقوّة الإحساس الروحي، وتوثيقٌ للصلة الدائمة بالله والارتباط به والاعتماد عليه، ليحصل الاستغناء الذّاتي بالله عمّن سواه، فيلجأ إليه المؤمن في محنه وشدائده… وعند إساءته ومعصيته… وهو واثق أنّه يُقبِل على ربٍّ رؤوفٍ رحيم، يمدّه بالعون ويقبل منه التوبة، فتطمئن نفسه، وتزداد ثقته بقدرته على مواصلة حياة الصلاح، وتجاوز المحن والشدائد.
وممّا يُعزّز أهمّية العبادة في الإسلام أنّها ذات منهاج فطري له طبيعة اجتماعية حركية، لا يؤمن بالفصل بين الدنيا والآخرة، فهو لا يدعو إلى محاربة المطالب الجسدية، من الطعام، والشراب، والزواج، والراحة، والاستمتاع بالطيّبات ولا يرى فيها عائقاً يُعرقل تنامي الأخلاق وتكامل الروح، بل يؤمن بأنّ هدف الجسد والروح من حيث التكوين الفطري هدف واحد، ومنهاج تنظيمها وتكاملها منهاج واحد.
ثمرة العبادة
لأنّ دين الإسلام هو دين شامل يُراعي جميع أبعاد الوجود البشري فإنّ للعبادة في الإسلام آثارها وفوائدها على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
تؤثّر العبادة على بناء الشخصية الإنسانية، والارتقاء بها إلى المستوى التكاملي، وتخليصها من كلّ المعوّقات التي تمنع رقيّها، وتكاملها من الأنانية والحقد والرياء والنفاق والجشع و… إلخ. فالعبادة تعمل على تطهير الذّات الإنسانية من مختلف الأمراض النفسية والأخلاقية. وتُسهم في أن يكون المحتوى الداخلي للفرد مطابقاً للمظهر والسلوك الخارجي، وفي تحقيق انسجامٍ كاملٍ بين الشخصية وبين القيم والمبادىء السامية. كما تعمل على غرس حبّ الكمال والتسامي الذي يدفع الإنسان إلى التعالي، وتوجيه نظره إلى المثل الأعلى المتحقّق في الكمالات الإلهية. لأنّ العبادة ممارسة إنسانية جادّة لإلغاء الأنانية إلغاءً تامّاً من وجود الإنسان من أجل التحرّر من قيودها والخروج من سجنها الضيّق الذي يشدّ الإنسان إليه ويستعبده. وكذلك فالعبادة تقوّي إرادة النفس، فمثلاً إنّ التنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعالي وكذلك الصوم في اليوم الحارّ الطويل، يزيدان من قوّة الروح فتتغلّب على قوى الجسم وتُسيطر على الشهوات وتُصبح هذه القوى تحت إمرة الروح وتوجيهها.
وقد بشّرت الروايات والنصوص الشرعية بما يجنيه العابد من ثمار:
يُغني قلبه: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “في التّوراة مكتوب يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنًى ولا أكلك إلى طلبك، وعليّ أن أسدّ فاقتك وأملأ قلبك خوفاً منّي وإن لا تَفَرَّغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا ثم لا أسدّ فاقتك وأكلك إلى طلبك” .
يتنعّم في الآخرة: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “قال الله تبارك وتعالى يا عبادي الصِّدِّيقين تنعّموا بعبادتي في الدُّنيا فإنّكم تتنعَّمُون بها في الآخرة” .
يُباهي الله به الملائكة: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “إنّ الله تعالى يُباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي” .
ينصره الله على الشيطان: عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ألا أُخبركم بشيء إنْ أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق
من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه ولكلّ شيء زكاة وزكاة الأبدان الصّيام” .
يدخل الجنة: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “ثلاثة يُدخلهم الله الجنّة بغير حساب: إمامٌ عادل، وتاجرٌ صدوق، وشيخٌ أفنى عمره في طاعة الله” .
كما أنّ للعبادة أثراً تكامليّاً على الذّات, فللمجتمع حظّه من تلك الآثار التكاملية. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ . والصوم يُشعر الإنسان بالوحدة والمساواة ومشاركة ذوي الحاجة والفقر بإحساسهم عند معاناة ألم العطش والجوع.. والحج مؤتمرٌ للوحدة والتفاهم والتعارف والإصلاح… إلخ. والكفّارات والنذور والصدقات والزكاة والخمس عبادات لإشباع الحاجات المادّية عند الفقراء، وتحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع..
وللعبادة آثار اجتماعية وأخلاقية مهمّة تنعكس على العلاقات الإنسانية المختلفة. فالعبادة والشعور بالعبودية لله وحده يُنقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطغاة والمستبدّين، والشعور بها يُحرّر الإنسان كذلك من الشهوات ومن سيطرة حبّ المال وجمعه وتكديسه، وتسخير الآخرين وظلمهم واستغلالهم من أجل هذا المعبود الزائل. والشعور بالعبودية لله يُحرّر الناس، من الصراعات والمآسي التي يعيشونها من أجل الاستعلاء والتحكّم والمكاسب المختلفة. والشعور بالعبودية لله يُشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس.. لأنّهم جميعاً متساوون في صفة العبودية لله الواحد الأحد. لذا فإنّ المجتمع الذي تسود فيه العبادة والعبودية لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبودية لله. فيُحطّم الناس حينذاك أصنام العبوديات المختلفة، صنم المال، والشهوة، والجاه، والسلطة، والكبرياء، إلخ. ليكونوا أحراراً كما خُلقوا.. وكما أراد لهم خالقهم العظيم.
والحمد لله رب العالمين