منذ بدأ الوعي البشري وهو يبحث في مسائل علم الاجتماع لأنها من المسائل الحياتية بالنسبة للبشرية فتوالت النظريات التي تفصل جانب العلاقات الإنسانية وأخرى تناقش الظواهر الاجتماعية وانصب اهتمامهم على وضع الظوابط التي تنظم تلك العلاقات وتقنن تلك الظواهر. والسؤال المطروح هنا هو: هل استطاعت البشرية الإتيان بنظريات ثابتة تليق بأن تكون مصدراً قانونياً يمكن له تنظيم كل العلاقات ومعالجة كل الظواهر الاجتماعية؟..
من خلال تتبعنا للنظريات المطروحة في المجال, لمسنا فيها بُعد النسبية لأنها معتمدة على الاستقراء.. فرجعنا إلى السماء فما وجدنا من فطور, ثم رجعنا البصر فوجدنا أن ربنا تبارك وتعالى الذي خلق, أول ما خلق مجتمعاً صغيراً وهو أسرة آدم ورعى شؤونه بأن أسكنه مسكناً, وسلّط الضوء على علاقته بزوجه, وجعل لها حق التكفل وله حق الطاعة, وتحدث رب العزة في قرآنه الذي أرسله ختماً لرسالاته التي كان الهدف منها تنظيم علاقات المجتمع البشري.. تحدث القرآن عن نظرية تكوين المجتمع وعن تطور المجتمعات وأعطى قوانين وضوابط لتنظيم العلاقات بين أفراد الأسرة وبين المجتمع بل وحتى الدول والأقران والجيران والمشتركين في الدين والمخالفين وجعلهم إخوة وأمرهم بالتراحم وأعطى جزاء للملتزمين وعقوبات لمن لا يلتزم بالقوانين وجعل القيم الأخروية جزاءً للقيم الدينية.
مدعانا في الأطروحة التي نريد تقصي آثارها وبيان شواهدها من القرآن الكريم, هي أن نزول القرآن الكريم ساهم كثيراً في تنظيم المجتمع, وبما أننا معتقدون أنه أرسل للعالمين كافة فإن نظرياته شمولية لكل زمان ومكان وفرد. فما نريده هو استقراء نظريات القرآن في العلاقات البشرية والظواهر الاجتماعية والقوانين التي وضعها الله لتنظيم تلك العلاقات, وماهو الفرق بين نظريات السماء للمجتمع وبين النظريات البشرية؟ قطعاً إن الكمال لله وحده, فكيف يصدر قانون كامل من إنسان لم يكتمل؟!
وعليه نريد تتبع النظريات القرآنية التي ساهمت في تطوير علم الاجتماع لحد الآن أو التي ندعوا البشرية لأخذها بنظر الاعتبار لتطوير علم الاجتماع بدءاً من الحقوق والواجبات والعقوبات والتشريعات والمستحبات والتوصيات التي تعنى بالنفس البشرية التي لا يحسن ترويضها إلا من ألهمها فجورها وتقواها.
ثم كيف يمكن أداء تلك النظريات والتحكم بها لتصير اهلاً للتواصل مع أقرانها ونكون شعوباً وقبائل حثّها الله للتعارف فيما بينها ليشهدوا منافع لهم في ممارسات عبادتهم جماعات, وتراحمهم بالزكاة, وإقامتهم سوياً للصلاة, وفرض على حيهم دفن ميتهم, ورحم صغيرهم من قبل كبيرهم؟
نريد أن نعرف كيف يمكن للقرآن إرفاد علم النفس الاجتماعي بقواعد للنفس البشرية التي أرقت العلماء فهم عاجزون عن حل لغز الروح وما هي الأمور التي يمكن استخدامها لترويض تلك النفوس؟ فمجرد أن يأتي القرآن ببعض المفاتيح لفهم النفس وقوانينها يكون قد طور علم الاجتماع فضلاً عن إتيانه بقواعد لتنظيم حياة الاجتماع المشتركة فيما بينهم رغم أن كل واحد منهم ينطوي فيه العالم الأكبر.
نسال الله التوفيق في فهم القرآن ونحيا به حياة طيبة بالالتزام بما جاء به من قوانين تطور علم الاجتماع الذي خلقنا فيه وسنحاسب عما نثمر ونخلف فيه..
كيف طوّر القرآن علم الاجتماع؟
نحن نسلّم بأصالة العقيدة الإسلامية بنظرتها الشمولية والتي ترتفع عن المصالح الفئوية وتخاطب الإنسان من حيث هو إنسان من غير تمييز عنصري وطبقي أو قومي، ونسلّم بأن هذه العقيدة باعتبارها ذات أصل إلهي هي وحدها القادرة على تطويرالنظريات والإيديولوجيات الوضعية, إن القضية الأساسية في تحقيق قدر أكبر من الموضوعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يكمن في تجريدها من طابعها العقائدي الذي يعتبر بالفعل حتمية من حتميتها وإنما يكمن في تعيين المذهبية الصحيحة التي تتجاوز كل المذاهب البشرية..
وحينما تكون أحكامنا وقيمنا ومواقفنا التي نتخذها تجاه القضايا الاجتماعية المطروحة مؤسسة على هذه المذهبية فلا مجال للحديث عن وجود تعارض بين الالتزام الإيديولوجي والالتزام العلمي، إذ أن علم الاجتماع الإسلامي الذي ينطلق من هذه العقائدية ليس من مهامه التحيز لفئة اجتماعية دون أخرى وليس علماً طبقياً يعمق الحقد الطبقي والفوارق الاجتماعية ويعمل على سيادة طبقة على أخرى، وهي كل المواصفات التي عملت النظريات الوضعية على تعميقها وتأكيدها..
إن دعوة علم الاجتماع إلى التحرر من الأيديولوجيات الضيقة هي دعوة مستمدة من الإسلام ذاته، فالإسلام لا يرضى لنفسه ولا لأتباعه أي عنوان عنصري أو طبقي صنفي أو محلي، فالمعتنقون للإسلام لا يتميزون عن غيرهم بعنوان معين كالعرب أو الساميين أو الشرقيين أو الغربيين. ولا شيء من هذه العناوين يعتبرها ملاكاً للجماعة الواقعية لأتباعه. إن دعوة علم الاجتماع الإسلامي إلى تجاوز الخلافات الأيديولوجية دعوة أصيلة تتأسس على أصول الإسلام نفسه، فقد دعا القرآن إلى تجاوز التكتلات والتحيزات والاختلافات كما تبين هذه الآيات الكريمة:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[1].
{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[2].
ويتوعد القرآن بشدة أولئك الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً فيقول:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[3].
ويحذر القرآن من عواقب التكتلات والتحيزات وما يستتبع ذلك من تفكك اجتماعي وفقدان المنعة فيقول:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[4].
ويؤكد القرآن أن التكتلات والتحيزات وصراع المصالح أمر عرضي طارئ وليس أصيلاً في تكوين المجتمعات: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[5] {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[6] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[7].
ويؤكد الوحي على وحدة الإنسان والمجتمع من خلال تأكيده على وحدة المعتقد الذي يضم تحت لوائها كل الأصناف البشرية من غير تمييز. كما ورد في الصحيحين نقلاً عن النبي| أنه قال: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). وهي وحدة الهدف التي أكدها القرآن الكريم: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [8] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[9] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[10].
ومن جهة أخرى، فقد تميز الحوار الأيديولوجي بين المدارس والنظريات الاجتماعية المتصارعة بالحدة والتحيز إلى جانب الذات وتأكيد المواقف الشخصية والمصالح الذاتية وتبرير الاحتكار والاستغلال وتعميق الحقد الطبقي والطائفي بين شعوب العالم، وبالمقابل فإن الحوار الأيديولوجي الذي يدعو إليه علم الاجتماع الإسلامي هو حوار مؤسس على مذهبيته العقائدية التي تهدف إلى بناء وحدة المجتمع الإنساني من خلال التأكيد على وحدة العقيدة والتي تهدف إلى التقليل من الفواصل الموجودة بين الشعوب، فيدعو القرآن إلى الحوار البناء الذي يهدف إلى تحقيق المزيد من التفاهم كما تؤكد ذلك هذه الآيات الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[11] و{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[12]..
فالحوار القرآني حوار أيديولوجي عقائدي ولكنه يرفض تعميق الفواصل الطبقية بقدر ما يرفض الذوبان والانمحاء وسط الأيديولوجيات كما يؤكد الجزء الأخير من الآية {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فدعوة الجماعات التي تخالفنا عقائدياً أمر مطلوب ومؤكد ولكن الحفاظ على استقلالية عقائدية القرآن وضرورة تميزها أمر مطلوب وبحدّة.
مواهب الخطيب – العراق
[1] . آل عمران: 64.
[2] , الحجرات: 13.
[3] . الأنعام: 159.
[4] .الأنفال: 46.
[5] . البقرة: 176.
[6] . آل عمران: 19.
[7] . آل عمران: 105.
[8] . الشورى: 13.
[9] . الروم: 30.
[10] . البقرة: 136.
[11] .النحل :125.
[12] . الإسراء: 53.