هذا الكتاب “التعددية والحرية في الإسلام- بحث في حرية المعتقد وتعدد المذاهب”، للشيخ حسن الصفار، صادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت. ويندرج الكتاب ضمن سلسلة الدراسات الحضارية، فيعالج مسألة الحرية والتعددية في الإسلام، ويحاول الإجابة عن سؤال هو: من منظور إسلامي، هل ينظر الإسلام إلى التنوع في المجتمع البشري، وإلى التنوع في داخل عالمه الخاص، والذي قد يتعارض معه على مستوى الفكر، وعلى مستوى العقيدة، هل ينظر إليه على أنه أمر مشروع أم لا؟
*نقد بنّاء
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله – كما في المقدمة – “قرأت الكتاب، وأهنىء فضيلة الشيخ الجليل على توفيق الله له في إنجاز هذا العمل، الذي يشق طريقاً في مجال غير مطروق في الأبحاث الفقهية والفكرية الإسلامية”. ويتابع الشيخ: “الكتاب فيما أعتقد يلبي حاجة ماسة ومتنامية في مجتمعاتنا الإسلامية التي تعصف بها خلافات مذهبية وطائفية، وخلافات بين المسلمين الملتزمين وبين المسلمين الذي يعملون في الحقل السياسي على خلفيات من داخل أُطُر تنطيميّة، غير إسلامية، ذات طابع قومي أو غير قومي، وكذلك بعض المجتمعات التي تعصف بها الخلافات الدينيّة بين المسلمين وغيرهم. إنّ هذا الكتاب وأمثاله، من الأبحاث التي تشرح وجهة نظر الإسلام الرحبة والمنفتحة للتعايش مع الأغيار، يلبي حاجة ماسة“.
أعتقد أنه من الصعب إضافة نقد بنّاء لهذا الكتاب، بعد ما أدلى به الشيخ شمس الدين. إذ يعدّ مفهوم التعددية والحرية السياسيّة, من الموضوعات الحساسة التي أخذت أبعاداً مختلفة في الأدبيات الإسلامية منذ نحو قرن على يد شخصيّات دينيّة وسياسيّة.
والذي أثار هذا الموضوع هو لغط جرى حول مفهوم “التعددية السياسيّة ومدارات الحرية” داخل الثقافة الإسلامية التي لا يمكن فصلها عن مراجعها ومراكزها الدينيّة والتقليديّة. وهو لغط أثاره العلمانيون بدعوتهم المستميتة لفصل الدين عن السياسة, وإبعاد الدين عن مناحي الحياة الأخرى من اجتماعية واقتصادية وسياسية.
*الحرية الدينية من أسس الإسلام
الكتاب، الذي يقع في أربعة فصول، يتعرض في بحث شامل لمختلف جوانب هذه القضية. طرح الفصل الأول قضايا أساسية كانت بمثابة مقدمة للبحث مثل: “الإنسان والدين”؛ “لا إكراه في الدين”؛ “كيف انتشر الإسلام؟“؛ “الإسلام والحرية الدينية“؛ “الحوار لغة التعامل“، أكد فيها على أن الإسلام يبني مجتمعه ونظامه السياسي على أساس الحرية الدينية، فهو يعرض مبادئه ويبيّن أحكامه, والناس بعد ذلك أحرار في قبوله أو رفضه فَمَن شَاء ﴿فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29). ويثبت الكاتب عبر عرض تاريخي كيف أنّ الإسلام نظّم تشريعات ووضع قوانين لحماية أتباع الأديان الأخرى، سواء الوضعيّة أو السماويّة، وللتعامل معهم في إطار الدولة الإسلامية.
*الكنيسة في العصور الوسطى
الفصل الثاني يدخل في تفاصيل عنوان الكتاب، إذ يدخل إلى موضوعات “التعددية في حياة البشر”؛ “حديث عن الوحدة”؛ “لا للإرهاب الفكري”. والقضية الأهم هي الإرهاب الفكري، والتي لها مصاديق هذه الأيام في منطقتنا العربية. كان جميلاً من الكاتب عرضه، في بداية الأمر، كيف كانت الكنيسة في أوروبا تضطهد الفكر المتطوّر، والمفكّرين، والعلماء، وحتى الرهبان الذين كانوا يكشفون عن حقيقة جمود الكنيسة، ليأتي حديثه أنه في هذه الأثناء كان الإسلام يبني دولته وحضارته المجيدة على أساس الحريّة والتسامح والعلم. وكان يركّز على أهمية العقل والتفكّر، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له”(1).
*رسول الإسلام حذّر من التكفير
حارب الإسلام كل ما ينتمي للتكفير بصلة. إذ يدعي بعضهم لنفسه أن الإسلام ينحصر فيما يراه ويفهمه هو، وأن من يخالفه في ذلك الفهم أو المذهب هو كافر. إنه من الروعة أن تعلم أن رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم حذّر من أن يشهر المسلم على أخيه المسلم سلاح التكفير، ففي الحديث الصحيح: “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما”(2). وعن الإمام الصادق عليه السلام: “ملعون ملعون من رمى مؤمناً بكفر، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله”(3).
*أسباب تعدّد المذاهب والأديان
يعالج الفصل الثالث جملة قضايا متعلقة بتعدد الأديان والمذاهب، العوامل والأسباب. ويذهب الكاتب للقول: إن العامل الفكري يشكل السبب الرئيس في تعدد المذاهب في الدين الواحد، وحتى تعدد الفرق في المذهب الواحد.
وإنّ الانشقاق يحصل غالباً بعد وفاة النبي أو المؤسّس، وعلى أساس ذلك الاختلاف الفكري يقع التعارض في المواقف السياسية.
*الإسلام في مواجهة التكفير
“لا للتكفير”، هو المحور الأول في الفصل الرابع من الكتاب وعنوانه “المذاهب الإسلامية: أصول مشتركة”، ويكاد يكون أهم المحاور، بعد “المتعصّبون يشهرون سلاح التكفير”. والأصول المشتركة بين المذاهب واسعة القاعدة والفروع، ويؤكّد الكاتب أن هذه الأصول لو عُمِلَ بها، مِنْ شأنها أن تكون ضمانة كبيرة لحفظ وحدة الأمة الإسلامية. ويعدّد هذه الأصول وفي مقدمتها أصول العقيدة، والقرآن الكريم.
كما عرّج الكاتب على بعض المسائل الخلافية، التي تم اختلاقها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصولاً إلى مسألة التكفير، التي ابتدعها الخوارج في عهد الإمام علي عليه السلام. وكانت هذه أكبر فتنة وقعت في الإسلام وما تزال آثارها إلى اليوم. في “التعصب والإرهاب الطائفي”، يسرد الكاتب مدرسة أهل البيت عليهم السلام في هذا الجانب مركّزاً على عهد الإمام الصادق عليه السلام، فيؤكد في سيرته كيف كان الإمام يعلّم طلّابه أهمية احترام الرأي الآخر من المذاهب، وأن يفتوا للناس كلّاً على مذهبه، وألا يفرضوا عليهم مذهب أهل البيت عليهم السلام بقوله: “انظر ما علمت أنه من قولهم فأخبرهم بذلك”(4).
*التعددية بدعة بنظر المتعصّب
ويقع بعض المسلمين في اجتناب فكر الآخر والتقوقع على نفسه. ويعتقد أن مساوئ التعددية السياسية أكثر من منافعها, فلا تستسيغه, إضافة إلى وجود عقليات إسلامية مختلفة المستويات الثقافية والعلمية تعتقد أن التعددية السياسية من الأمور المستحدثة الطارئة على الدين, وهي من الشبهات, أو البدع. يؤكد الكتاب أن التعدديّة والحريّة في الإسلام مكفولتان بدلالة:
1 – النصوص الشرعية الواقفة على جعليّة التنوّع والاختلاف في حياة البشر. وإقرار الرسالة الإسلامية بهذا التنوّع والاختلاف في مصاديقه المختلفة, من قبيل قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء:84).
2 – فطريّة التعدّد والجعل التكويني للتنوع في كل زاوية من زوايا الكون والحياة, فالفطرة تحكم بالتعدد والتنوع, والعقل يقرّ أن التنوع أمر قائم.
3 – إن العقل السليم يدلّنا على أصالة الحرية, ولكن لا الحرية المطلقة, لأن إطلاق الحرية مدعاة إلى عدد من المفاسد التي تأتي على حرية الآخرين، وهذه مفسدة أكبر.
*خلاصة الأمر
إن القول بجعلية التعدد والتنوع في الكون والإنسان ومجمل الحياة البشرية يقود إلى القول بحتمية الحرية فضلاً عن أصالتها، والتعددية السياسية، وهي من صور التعددية تنفتح على حرية سياسية, إذ لا تعددية سياسية من غير حرية سياسية, ولا حرية سياسية من غير تعددية سياسية.
*”نواقص” الكتاب
رغم أن هذا الكتاب يعدّ من الدراسات القليلة في باب التعددية السياسية في الإسلام، إلا أنّ أهمّ ما يعاب عليه هو عدم خوضه في التجارب الحديثة المعاصرة، واقتصر بحثه على عهود صدر الإسلام وحقب بني أمية وآل العباس. وفي باب “خطورة التكفير” يكتفي بسرد حوادث حول كيفية تعامل الإمام علي عليه السلام مع الخوارج أصحاب هذه الظاهرة دون الولوج إلى الشرخ الذي أحدثوه في الأمة. كما أنه لا يعرّج على العديد من القضايا التي يَتّهم بها الإسلام: بأنه آحادي الثقافة، يمايز الآخرين ويسميهم “أهل الذمة” ويفرض عليهم “دفع الجزية”، وغيرها من القضايا التي يستغلها أعداء الإسلام للنيل منه.