الوقت – بعد فشل الإنقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في منتصف الشهر الماضي، والإتهامات التي وجهتها أنقرة لوشنطن بالوقوف وراء هذا الإنقلاب، بدأت تلوح في الأفق بوادر تشير إلى أن العلاقات بين الجانبين لن تبقى على ما كانت عليه في السابق، خصوصاً بعد أن طالبت الحكومة التركية نظيرتها الأمريكية بتسليم المعارض “فتح الله غولن” لإتهامه أيضاً بالضلوع في هذا الإنقلاب.
وأكد وزير العدل التركي “بكير بوزداغ” بأن السلطات الأمریكية تعلم بأن غولن يقف خلف الإنقلاب، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن بلاده لديها معلومات عن إحتمال هروب غولن من أمريكا إلى أستراليا أو المكسيك أو دول أخرى.
يأتي هذا في وقت حذّر فيه وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” من أن إتهام أنقرة لبلاده بالضلوع في الإنقلاب سوف يسيء للعلاقات بين البلدين. واللافت أن واشنطن كانت قد وصفت المحاولة الإنقلابية في تركيا في الساعات الأولى من وقوعها بأنها إنتفاضة ضد حكومة رجب طيب أردوغان المنتخبة، الأمر الذي أثار غضب وإستياء عامّة الشعب التركي.
بعد ذلك جاءت أخبار تورط قاعدة “إنجيرليك” الجوية التي تديرها القوات الأمريكية في الأراضي التركية في الإنقلاب الفاشل، بالأخص فيما يتعلق بتزويد الوقود لطائرات الإنقلابيين من هذه القاعدة، ما دفع الشعب التركي للشعور بالغضب من تورط واشنطن في الإنقلاب، لاسيّما وأن أمريكا لها سجل حافل في دعم الإنقلابات العسكرية السابقة في تركيا.
وبعد الإنقلاب الفاشل بدأت تركيا تدرك أن الوجود الغربي خصوصاً الأمريكي على أراضيها لم يكن لتعزيز العمل العسكري المشترك عبر الناتو؛ بل كان في جزء منه تدخلاً في الشأن الداخلي التركي. وهذا يعطي إنطباع سلبي عن شكل العلاقة المستقبلية بين تركيا والغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص وهي علاقة بنظر أكثر المراقبين لا تغني ولا تسمن من جوع للجانب التركي.
وتثير إقامة غولن في ولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ 1999 ونشاطاته الواسعة في داخل تركيا وخارجها في مختلف المجالات قلقاً دائماً لدى السلطات التركية، خصوصاً وأن غولن كان قد اُتهم في السابق بإختراق أجهزة الدولة والإشتباه بإدارة مجموعة إرهابية، كما اُتهمت جماعته بإعلان الحرب على حكومة حزب “العدالة والتنمية” عبر تسريب أشرطة تنصت غير مشروعة وفبركة تسجيلات صوتية.
وجاء تصريح وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أغلو” بأن العلاقات التركية – الأمريكية سوف تتأثر كثيراً إذا لم تسرع واشنطن بتسليم غولن للقضاء التركي، لوجود إتفاقية بين الدولتين تقضي بإعادة المتهمين من الجانبين. وبموجب هذه الإتفاقية أعادت أنقرة الكثيرين ممن طالبت بهم السلطات الأمريكية للتحقيق معهم في قضايا الإرهاب أو غيرها من القضايا.
في ذات السياق طالبت أحزاب المعارضة التركية وفي مقدمتها “حزب الشعب الجمهوري” الذي يتزعمه “كمال كلجدار أغلو” و “حزب الحركة القومية التركية” الذي يتزعمه “دولت باهشلي”؛ طالبت أمريكا بتسليم غولن إلى القضاء التركي، فيما وصف صلاح الدين ديمرتاش زعيم “حزب الشعوب الديمقراطي” المحاولة الإنقلابية الفاشلة بأنها جريمة كبرى ضد حكومة منتخبة وضد الشعب التركي ومؤسساته المدنية والعسكرية.
من جانب آخر تسببت الإنتقادات اللاذعة التي وجهتها الكثير من وسائل الإعلام الغربية لحكومة أردوغان على خلفية الإجراءات المشددة التي إتخذتها بعد فشل المحاولة الإنقلابية بإيجاد شرخ كبير بين أنقرة والغرب، خصوصاً بعد دعوة هذه الوسائل لقطع العلاقات مع تركيا وإخراجها من حلف شمال الأطلسي”الناتو”.
من ناحية أخرى ورغم خروج تصريحات أوروبية تشير إلى عدم تأثير الإنقلاب الفاشل في تركيا على الإتفاقيات الموقعة بين الجانبين خاصة المتعلقة باللاجئين، سرعان ما ظهرت تصريحات لعدد من المسؤولين الغربيين بينهم رئيس المفوضية الأوروبية “جان كلود يونكر” الذي حذّر من خطر إنهيار الإتفاق الذي أبرمه الإتحاد الأوروبي مع تركيا لضبط تدفق المهاجرين غير القانونيين من أراضيها باتجاه أوروبا الغربية.
ويهدف الإتفاق الذي تم التوصل إليه بين الإتحاد الأوروبي وتركيا في مارس /آذار الماضي، إلى وقف عبور المهاجرين من الساحل التركي إلى الجزر اليونانية، ويسمح بإعادة المهاجرين إلى تركيا. وبالفعل أدى هذا الإتفاق إلى إنخفاض كبير في أعداد المهاجرين الوافدين إلى أوروبا، لكن محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا أثارت مخاوف الكثيرين من إمكانية عرقلة تطبيق هذا الإتفاق، خصوصاً بعد أن أقالت الحكومة التركية المسؤولين الأتراك المكلفين بمراقبة تطبيق الإتفاق في الجانب اليوناني، ولم تعيّن مسؤولين آخرين بدلاً منهم.
ويجمع المراقبون بأن العلاقات التركية الغربية خصوصاً بين أنقرة وواشنطن لن تبقى على ما كانت عليه قبل المحاولة الانقالابية الفاشلة في تركيا، معربين في الوقت ذاته عن إعتقادهم بأن السياسة التركية ستشهد تغيّرات بإتجاه تعزيز العلاقات مع إيران وروسيا اللتان أدانتا الإنقلاب الفاشل في تركيا، وهو ما من شأنه أن يشكل نقطة تحوّل جوهرية في سياسة أنقرة تجاه طهران وموسكو رغم الخلاف بين القيادة التركية ونظيراتها الإيرانية والروسية حيال العديد من القضايا والأزمات وفي مقدمتها الأزمة السورية، فيما يرى آخرون بإن الإعتذار الرسمي الذي قدّمه أردوغان مؤخراً لنظيره الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط طائرة السوخوي قبل عدّة أشهر من شأنه أيضاً أن يعيد المياه إلى مجاريها بين موسكو وأنقرة من جهة، ويعمّق الخلاف بين الأخيرة والغرب من جهة أخرى.
أخيراً يمكن القول بأن هذه الأسباب وغيرها ستحفّز أنقرة نحو تشكيل تحالف جديد مع طهران وموسكو لمواجهة الضغط الغربي من جهة، والتصدي لخطر الإرهاب الذي يداهمها من جهة أخرى، خصوصاً بعد التفجير الذي إستهدف مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول قبل عدّة أسابيع وراح ضحيته الكثير من الأشخاص بين قتل وجريح.