سرعة التطورات الحاصلة في الانتاج وشدّة التنافس على السوق وتحديات الربح والخسارة وغيرها من مشاغل الذهنية المادية، تحجب عن الانسان في بعض الاحيان، التفكير في الجانب المعنوي، فينصرف الجهد الذهني لكسب المزيد من العلوم والتجارب لما يفيده في العمل والانتاج مستفيداً من مختلف الوسائل المتاحة.
ويعتقد البعض أن التوقف عند السلوك الشخصي او الجمعي، والتأمل في المعايير المتبعة، من شأنه ان يأخذ وقتاً كثيراً يبعد صاحبه عن واقعه ويرمي به في عالم المثاليات، وما يجب أن يكون وكيف…؟، فيبقى الانسان يجري خلف آمال ربما لا تتحقق، مثل أن تسود الفضيلة ومكارم الاخلاق في المجتمع ويحتكم الناس الى القيم الانسانية والدينية، هذا ما نلاحظه تحديداً في عالم الاقتصاد، كما نلاحظه ايضاً في عالم السياسة.
هذه الصورة النمطية التي يرسمها البعض لا تزيد أهل العلم والعمل علمية وواقعية، كما يظنون، بقدر ما يعزز الخطأ الحضاري الذي وقعت فيه الشعوب والأمم في العالم، عندما راهنوا على التفكير المادي وتخلوا عن التفكير المعنوي، فتحول الانسان، سواءً كان مهندساً ومبدعاً أو عاملاً بسيطاً الى صامولة في ماكنة الانتاج، يربح المال والشهرة، بفضل الماركات التجارية عبر العالم، لكنه يخسر نفسه، ومثال ذلك الفقر الذي تورطت فيه الرأسمالية عندما ضمنت حرية العمل والانتاج لاصحاب الرساميل بطريقة حولتهم الى حيتان يبتلعون ذوي الدخل المحدود، وهذه الازمات المالية والاقتصادية في هذا البلد وذاك، وابرزها الازمة الاقتصادية في اليونان التي حولت الناس الى فقراء لا يجدون في جيوبهم ما ينفقونه، وايضاً الازمة المالية في اميركا التي حولت شريحة كبيرة من الناس الى نزلاء الشوارع والارصفة عندما وجدوا على حين غفلة انهم يفقدون مساكنهم المرهونة لدى المصارف بسبب الانخفاض الشديد لقيمة العقار واضطرار المصارف لاستراجعها. وغيرها من الامثلة العديدة التي نراها على شكل احداث يومية على شريط الاخبار.
في المقابل، نجد رؤية مغايرة توجه السلوك نحو الانكفاء على المعنويات بدعوى الاهتمام بالاخلاق والالتزمات الدينية، وربما استأنس البعض بروايات و احاديث تحذر من مغبة الانحراف في المعاملات التجارية، منها الحديث المروي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: “التاجر فاجر إلا أن يتفقه في الدين”، الى جانب هذا ثمة حديث شريف يحث على العمل في التجارة تحديداً؛ “تسعة أعشار الرزق في التجارة…”.
ان وجود الفجوة بين العلم والعمل والابداع والانتاج، وبين الالتزامات الدينية والقيم الاخلاقية، تعد من أهم اسباب التخلف الذي تعاني منه الامة في الوقت الحاضر، ومنذ قرون خلت، وضلت في السفوح تتطلع الى شعوب تقدمت وتطورت في مجالات عديدة، وأضحت مصداق قول الامام علي، عليه السلام: “احتج الى من شئت تكن اسيره”.
هنالك اسباب عديدة بحثها العلماء والمفكرون، بيد إن الاشارة الى بعضها تفيد التذكير، أهمها الابتعاد عن روح القرآن الكريم، الذي يحمل كنوز العلوم والمعارف، والى هذا حذرنا الامام علي، في ساعاته الاخيرة بأن “الله الله في القرآن لايسبقنكم بالعمل به غيركم”، و وقع المحذور فعلاً، واستفاد الغربيون، أيما استفادة من القرآن الكريم في مسيرة التقدم العلمي والثقافي، والامثلة على ذلك كثيرة.
ومنها ايضاً، الابتعاد عن ينابيع العلم والقرآن الناطق المتمثل بالأئمة المعصومين، عليهم السلام، الذين يفترض ان يكونوا عند المسلمين حتى اواسط القرن الثالث الهجري مصدر إلهام لمختلف انواع العلوم والمعارف، بينما نلاحظ الحالة المعاكسة وبشكل عجيب، من بعض المعاصرين، وكيف أنهم كانوا يحرصون على التشكيك والقدح والجدل وجهاً لوجه مع الأئمة من أهل بيت رسول الله.
أما التعلل بسياسات القمع والاضطهاد التي مارسها الحكام ضد العلماء، وانهم السبب في تقوقع البعض على العبادة والتنسّك والاقتصار على دراسة العلوم الدينية التي تعني بالحلال والحرام وحسب، فهو تذرع لا يصمد أمام الحقائق الانسانية التي تدلنا على تحدي العلماء في الغرب لمختلف اشكال الضغوط الاجتماعية والسياسية وحتى المعيشية لانجاح تجاربهم العلمية والكشف عن الحلول والاجابات في مجالات الطب والهندسة والفلك والاحياء وغيرها.
وفي رصيدنا الحضاري ثمة نماذج رائعة لعلماء برعوا في شتى العلوم وأفادوا الامة وبلغ صيتهم الآفاق، وقد قرنوا العلم والعمل بالالتزامات الدينية والاخلاقية، بل كان هذا الالتقاء والاندماج سر النجاحات الباهرة التي نرى بعض آثارها حتى اليوم، مثل الهندسة المعمارية والفلك والكيمياء وغيرها، ونشير الى ألمعهم؛ العالم الموسوعي المتبّحر، الخواجه نصير الدين الطوسي، الذي برع، الى جانب العلوم الدينية، العلوم الطبيعية مثل الفلك والطب والهندسة والرياضيات والجغرافيا، ويؤكد المؤرخون فضله في اكتشاف علم المثلثات وجعله فرعاً مستقلاً في الرياضيات، وفي الكيمياء والفيزياء أبدع الطوسي صيغة لقانون بقاء المادة، حيث كتب أن أي مادة قابلة للتحول لكنها غير قابلة للاختفاء، بمعنى انه سبق الاوربيين في هذا الكشف بحوالي 500عام، هذا العالم النحرير، لم يتخرج من مراكز اكاديمية، كما كان الحال في الغرب، إنما تخرج من مكان واحد؛ وهو المسجد، كذلك كان حال جابر بن حيان وامثاله.
وبذلك نخلص على أن التقدم والتطور الذي ننشده للأمة لن يتحقق إلا بسد تلك الفجوة القاتلة بين العلم والعمل وبين الدين، والتي ابتلعت القدرات الكبيرة طيلة القرون الماضية، وما نزال نشهد هدر الفرص بنشوء جيل جديد ينطلق من قواعد الدين والاخلاق نحو دراسة مختلف انواع العلوم والتفكير بتطوير حياة الانسان، وهذا ممكن عندما تتقدم الحوزة العلمية خطوة تقابلها خطوة مماثلة من الجامعة، تتبعها خطوات مستمرة، ليس للتعارف وتبادل المجاملات والافكار، وإنما للاندماج والتكامل حتى نحصل على علماء في الطب والهندسة والكيمياء وما يتفرع منه