في البصرة الفيحاء منبت الشهداء وفي أفقر أحيائها الشعبية ، محلة الهادي المعروفة بخمسة ميل ، أبصرت عيناه النور عام 1967م في أسرة مؤمنة ربّت أبناءها على الإيمان والأخلاق الفاضلة.
دخل المدرسة في ذلك الحي وأكمل السادس الابتدائي ثم انتقل إلى المتوسطة ولكن حين عاد والده الحاج حسن من عمله في شركة الموانئ العراقية ، فوجئ بالمجرمين الذين جاءوا لاعتقاله هو وأسرته وسرعان ما تم نقلهم إلى مدينة العمارة ومنها الى قضاء علي الغربي ثم رمي بهم على الحدود الإيرانية في 09/04/1980م.
هكذا كان يفعل صدام المجرم فبقراره المشؤوم الذي اتخذه كخطوة أولى لشن الحرب على الجمهورية الإسلامية تم تسفير الآلاف من الأسر العراقية بحجة التبعية الإيرانية وبأسلوب يندى له جبين الإنسانية، كان الأبواب تطرق ويتم سوق الأطفال والنساء والشيوخ إلى المعتقلات بالسباب والشتائم بكل ما تملك مدرسة صدام وحزب البعث من خسة ونذالة وانحطاط أخلاقي ، فيلقي بتلك الاسر ليلًا على الحدود مهما كانت وعرة ومهما كانت الأحوال الجوية فلا وجود للرحمة في قلوب أولئك المجرمين..
وبعد مسير ليلة كاملة وصلت أسرة الحاج حسن إلى الجانب الإيراني بحالة مأساوية الى مدينة دهلران حيث نقلوا منها إلى مدينة خرم آباد.
اختارت أسرة أبيذر مدينة قم سكنًا لها واختار أبوذر الالتحاق بمجاهدي الشهيد الصدر الذي كان يتابع أخبارهم الجهادية قبل التسفير فتدرب هناك على مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ثم شاركهم في الكثير من الواجبات الجهادية وكان يصر على مسؤولي معسكر الشهيد الصدر لإرساله إلى مقرات المجاهدين في كردستان العراق، لكنهم كانوا يعتذرون له لوعورة المنطقة الصعبة على شاب لم يتمرس عليها لكنهم كانوا يعِدونه بذلك ويعدّونه لذلك.
بعد تشكيل قوات بدر التحق بدورتها الثانية بتاريخ 8/8/1983م وكان يؤدي التمارين العسكرية بإخلاص واندفاع بغية إرساله بواجبات جهادية فور اجتيازها.
كلف أبوذر بواجب جهادي ضمن سرية الجهاد التي تشكلت من تلك الدورة على أطراف مدينة البصرة وعلى رغم صغر سنه كان دوره مشهودا في القيام بالدوريات القتالية ونصب الكمائن والفعاليات العسكرية الأخرى.
عرف بشجاعته وصبره ولطافته وأخلاقه العالية وحسن معاشرته لأخوته المجاهدين وخدمته لهم، يصفه أبومصطفى الشيخ( ) بأنه «كان كريمًا طيب النفس يمتاز بخصلة الإيثار وكذلك بالشجاعة الفائقة والاطمئنان رغم كل المخاطر وكانت ثقته بالله عالية.
ويستمر بالحديث عنه قائلا «التحق بقوات بدر ضمن الدورة الثانية وهو بعد لم يبلغ سن الرشد واستمر معنا حتى تاريخ استشهاده.
شارك مع فوج الشهيد الصدر بعد تشكيله من سرايا —الهجرة والجهاد والشهادة— في واجب في هور الحويزة، الذي سيبقى في ذاكرة المجاهدين حافلًا بالدروس والعبر.
استقر مع أفراد فصيله في النقطة الثانية بالقرب من برگة سيد نور( ) وعلى الرغم من صغر سنه كان يتحمل ظروف الأهوار القاسية بكل إرادة وإصرار، وكان وجهه يتورم من كثرة لسع البعوض ليلًا ولم يكتف بالتواجد في أحد النقاط بل كان يصر على الاشتراك في الكمائن وعمليات الاستطلاع والواجبات الأخرى وكان دائم الحركة لايعرف للراحة طعما.
اشترك في عمليات تحرير مخفر الترابة في هور الحويزة بتاريخ 11/03/1985م ثم في عمليات القدس التي نفذت بتاريخ 23/07/1985 للسيطرة على النصف الجنوبي لبحيرة أم النعاج حيث كان دوره مشهودًا، كما اشترك ايضا في عمليات عاشوراء مع فوج الشهيد الصدر للسيطرة على النصف الشمالي لبحيرة أم النعاج، حيث بدأ الهجوم في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 23/10/1985م وتمت السيطرة على كل المواقع بعد أقل من نصف ساعة بما فيها نقاط العدو العائمة التي كانت تحمل سلاح الديمتروف( ) وتمتد على عرض البحيرة.
بعد السيطرة على معظم هور الحويزة، سلمت المنطقة إلى فوج أنصار الحسين عليهالسلام وسرية من الفوج الثالث، أما بقية الأفواج فقد انسحبت من الأهوار لتدخل دورات تدريبية في مناطق جبلية استعدادًا لتنفيذ واجبات جهادية في كردستان العراق.
في ليلة 1/9/1986م شن المجاهدون هجومًا واسعًا وخاضوا ملحمة بطولية على جبال گردمند وگردكوه في حاج عمران وسيطروا على أهدافهم…
فقد أبوذر في تلك المعركة أعز أخوة الجهاد فلم يزده فقدانهم إلا إصرارًا على مواصلة طريق الجهاد حتى النصر أو الشهادة وكان حقًا من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقد سارع للاشتراك في ملحمة أخرى من ملاحم الشرف على مشارف مدينة البصرة بتاريخ 21/01/1987، وهناك استشهدت مجموعة أخرى من رجال الإيمان وأخوة الجهاد أمثال أبيياسين البصري وأبيطارق البصري وأبيهاجر الياسري وأبيعماد الناصري و… رجال بكاهم المجاهدون واستقبلتهم الحور العين وكان نصيب أبيذر في تلك العمليات نياشين توشم بها جسمه مما أصابه من جراح ولكنه احتسب كل ذلك في سبيل الله فلم يكل ولم يهن واستمر حاملًا سلاحه بوجه ألعن خلق الله وأقبحهم فعلًا.
شارك في عمليات هجومية في كردستان كما شارك في عمليات الاستطلاع والدوريات القتالية مع فوج الشهيد الصدر.
اختير مع مجموعة من المجاهدين للانضمام إلى وحدة الاستخبارات في فرقة بدر( ) عام 1987، فباشر بعمليات الاستطلاع مع وحدته وكان الهدف هو تحرير مدينة حلبچة وكان الاستطلاع قد سبق المعركة بعشرين يومًا لجمع المعلومات اللازمة لتكون عملية نوعية تتم فيها السيطرة على الأهداف بأقل الخسائر.
تقدم المجاهدون على الرغم من وعورة المنطقة وشدة هطول الأمطار مجتازين كل الحواجز والموانع الطبيعية منها والاصطناعية التي أقامها الأعداء ظنًّا منهم انها تمنع المجاهدين لكن خابت ظنونهم في ليلة 11/03/1988عندما دوت صيحات التكبير جبال ووديان مدينة حلبچة وتهاوت مواقعهم بيد المجاهدين وكانت مهمة أبيذر يومئذ هداية إحدى السرايا إلى أهدافها وقد أنجز المهمة على أحسن وجه.
وفي الصباح كلف مع المجاهد أبيمحمد البصري( ) وآخرين بواجب داخل مدينة حلبچة حيث استقبلوا بالأحضان من قبل أهل المدينة الذين فرحوا بهم وتصوروا أنهم قد تخلصوا من صدام وإجرامه ولكن لم تدم فرحتهم طويلًا حينما ظهرت الطائرات في سماء المنطقة حاملة معها الموت السريع لأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وأخذت تقصفها بقذائف الغازات السامة فتعالت السحب البيضاء وذعر الأهالي الذين بدأوا يتساقطون كأوراق الخريف وذبلت الورود التي كانت قبل لحظات تزين شوارع المدينة وتبدلت الحياة إلى موت رهيب خيم على كل الأحياء والأزقة فالأم تحتضن رضيعها ويفارقا الحياة، والشيخ يمسك بيد حفيده وقد توسدا الأرض— مشاهد لايمكن وصفها وصور تحكي همجية صدام وحزب البعث وتذكر بجرائم أمريكا في هيروشيما وناكازاكي، فلو مررت بقرية تسمة عنب، وجدتها قرية أشباح فارق كل أهلها الحياة شهداء شاهدين على ظلم الطغاة…
كل تلك الجرائم حدثت وسط صمت إعلامي وضمير عالمي ميت ومنظمات حقوق إنسان تعمدت أن تخفي ما رأت وسجلت كل ما حدث وكان يحدث.
فر من نجا من الأهالي على وجوههم في الجبال والوديان بوضع مأساوي يذكرك بأهوال يوم القيامة،﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾( ).
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾( ).
لا عجب ولا استغراب ان يقوم صدام وعلي المجيد وحثالات حزب البعث بهكذا أفعال بل العجب كل العجب أن يقف في ذلك المعسكر من يدافع عن أولئك المجرمين.
أما أبوذر فقد لبس قناع الوقاية الذي كان يحمله، لكنه التفت إلى أبيمحمد البصري فشاهده بدون قناع، فنزع قناعه وناوله إلى أبيمحمد الذي رفض هو الآخر قبوله لكن أبوذر أصر عليه فألبسه إياه ووضع أبوذر منديلًا على أنفه ولكن دون جدوى فقد تشبع جسمها بالغازات الكيماوية فاستشهدا معًا بتاريخ 11/03/1988، وقد رسما صورة من أروع صور الإيثار التي لاتجد مثيلًا لها إلا في تاريخ الإسلام الأول.
لقد رحل أبوذر شهيدًا بعد عمر من الجهاد ورجعت روحه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية وانطوت باستشهاده صفحة مشرقة من صفحات الجهاد المقدس ولكن ستبقى تلك الأيام والمواقف منارًا للأجيال تقتدي بها وتستلهم منها الدروس والعبر.
شيع ودفن في مقبرة الشهداء في مدينة قم المقدسة( ).
سلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا
مجموعة من مجاهدي فوج الشهيد الصدر. الاول على اليسار الشهيد أبوذر البصري
الثاني على اليمين من الواقفين الشهيد وديع عبد الرزاق — أبو ذر الواسطي